الْمَنْفَعَةَ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا، إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَلِفُ اسْتِيفَاؤُهَا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْمَنَازِلِ بِالسُّكْنَى، وَالْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ، وَالثِّيَابِ وَالْحُلَلِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ، بِالْخَدْمَةِ وَالدَّوَابِّ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ، وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالصُّنَّاعِ بِالْعَمَلِ مِنْ الْخِيَاطَةِ، وَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يُقَامُ فِيهِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَاحِد حَتَّى لَوْ سَلَّمَ نَفْسَهُ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَعْمَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَنُخَرِّجُ عَلَيْهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ: لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ لِلثَّمَرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ عَيْنٌ وَالْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا أَوْ سَمْنِهَا أَوْ صُوفِهَا أَوْ وَلَدِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا إجَارَةُ الشَّاةِ لِتُرْضِعَ جَدْيًا أَوْ صَبِيًّا لِمَا قُلْنَا، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَاءٍ فِي نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ قَنَاةٍ أَوْ عَيْنٍ لِأَنَّ الْمَاءَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْقَنَاةَ وَالْعَيْنَ، وَالْبِئْرَ مَعَ الْمَاءِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَاءُ وَهُوَ عَيْنٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآجَامِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِلسَّمَكِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْقَصَبِ وَالصَّيْدِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَخْبَثُ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهَا بِدُونِ الْمَاءِ فَاسِدٌ فَكَانَ مَعَ الْمَاءِ أَفْسَدَ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَرَاعِي؛ لِأَنَّ الْكَلَأَ عَيْنٌ فَلَا تُحْتَمَلُ الْإِجَارَةُ، وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ وَلَا تِبْرِهِمَا وَكَذَا تِبْرُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا، وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا الْعَيْنُ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِيُعَبِّرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ حِنْطَةً لِيُعَبِّرَ بِهَا مِكْيَالًا أَوْ زَيْتًا لِيُعَبِّرَ بِهِ أَرْطَالًا أَوْ أَمْنَانًا أَوْ وَقْتًا مَعْلُومًا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ انْتِفَاعٍ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ سَنَجَاتِ الْمِيزَانِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودَةً وَالِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ عَادَةً، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ النَّسْلُ وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وَهُوَ عَيْنٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «أَنَّهُ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» أَيْ كِرَائِهِ لِأَنَّ الْعَسْبَ فِي اللُّغَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِلضِّرَابِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ لِمَا فِي النَّهْيِ عَنْهُ مِنْ قَطْعِ النَّسْلِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ كِرَاءَ عَسْبِ الْفَحْلِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْكِرَاءَ وَأَقَامَ الْعَسْبَ مَقَامَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ ﷿ ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِيَصِيدَ بِهِ أَوْ بَازِيًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهُوَ الصَّيْدُ وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ عَلَى الْأَصْلِ، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْعَيْنِ وَهِيَ اللَّبَنُ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ عَلَى خِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِئْجَارًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ، أَيْضًا وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَإِلْبَاسِهَا إيَّاهُ وَطَبْخِ طَعَامِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا كَالصَّبْغِ فِي اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وَإِذَا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الشَّاةِ فَلَمْ تَأْتِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَالصَّبَّاغِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ لَوْنًا آخَرَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ، وَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْفَعَةَ كَذَا هَهُنَا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَيْنُ وَهِيَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا وَالْخِدْمَةُ تَتَبُّعٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا يَتَرَبَّى إلَّا بِاللَّبَنِ فَأُجْرِيَ اللَّبَنُ مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْأَقْطَعِ، وَالْأَشَلِّ لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ، وَالْقِصَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ وَكُلِّ عَمَلٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْيَدَيْنِ، وَاسْتِئْجَارُ الْأَخْرَسِ لِتَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَالْأَعْمَى لِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَحْدُثُ عَادَةً إلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالنَّزَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لَهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الزِّرَاعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا مِنْهَا عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْإِجَارَةُ بِبَيْعِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ تَجُزْ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْمُصْحَفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُصْحَفِ النَّظَرُ فِيهِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ وَالنَّظَرُ فِي مُصْحَفِ الْغَيْرِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْهُ مُبَاحٌ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْحَطَبِ، وَالْحَشِيشِ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ كُتُبٍ لِيَقْرَأَ فِيهَا شِعْرًا أَوْ فِقْهًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الدَّفَاتِرِ النَّظَرُ فِيهَا وَالنَّظَرُ فِي دَفْتَرِ الْغَيْرِ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ أَجْرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ظِلَّ حَائِطٍ خَارِجَ دَارِهِ لِيَقْعُدَ فِيهِ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مِنْ الْكُتُبِ لِيَقْرَأَ فَقَرَأَ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْآجَامِ لِلسَّمَكِ وَالْقَصَبِ وَإِجَارَةُ الْمَرَاعِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute