للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ، وَلَا ضَرَرَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا؛ لَا تَتَفَاوَتُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُ جَمِيعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ؛ لِأَنَّ؛ بَيْعَ الْقَاضِي لَيْسَ تَصَرُّفًا عَلَى الْمَيِّتِ لِبُطْلَانِ أَهْلِيَّتِهِ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدُّيُونِ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ تَخْلِيصًا لِنَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الدَّيْنِ عِنْدَمَا سَدَّهُ عَنْ حَيَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيُنْفِقُ الْمَحْبُوسُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَأَقَارِبِهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ]

وَأَمَّا حَبْسُ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ فَالْمَحْبُوسُ بِالدَّيْنِ فِي الْأَصْلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَحْبُوسٌ هُوَ مَضْمُونٌ وَمَحْبُوسٌ هُوَ أَمَانَةٌ، وَالْمَضْمُونُ عَلَى نَوْعَيْنِ أَيْضًا مَضْمُونٍ بِالثَّمَنِ وَمَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَالْمَضْمُونُ بِالثَّمَنِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ سَقَطَ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ لَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَيُطَالِبُهُ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ بِإِزَاءِ تَمْلِيكٍ، وَتَسْلِيمٌ بِإِزَاءِ تَسْلِيمٍ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ لِهَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ بِالثَّمَنِ، فَيُسْقِطُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي الْبَقَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا يَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ، فَهَذَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا بِالثَّمَنِ لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ الصَّحِيحَةِ هَهُنَا، وَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ أَصْلًا.

وَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَحَبَسَ السِّلْعَةَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَهَلَكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ أَمَانَةً عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الطَّلَبِ يَهْلِكُ مَضْمُونًا، لَكِنْ ضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الرَّهْنِ، وَعِنْدَ زُفَرَ ضَمَانُ الْغَصْبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَمَّا الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ فَكَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ إذَا فَسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَحَبَسَهُ لِيَرُدَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ، وَكَذَا الْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ عِنْدَنَا، لَكِنْ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ الَّذِي هُوَ أَمَانَةٌ فَنَحْوُ نَمَاءِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَحْبُوسٌ بِالدَّيْنِ لَكِنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَذَا الْمُسْتَأْجِرُ دَابَّةً إجَارَةً فَاسِدَةً إذَا كَانَ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ فَحَبَسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ حَتَّى هَلَكَتْ فِي يَدِهِ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الْإِكْرَاهِ]

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْإِكْرَاهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إذَا أَتَى بِهِ الْمُكْرَهُ وَفِي بَيَانِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْكُرْهِ، وَالْكُرْهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْمُكْرَهِ يُنَافِي الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا؛ وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلَ الْآخَرِ قَالَ اللَّهُ : ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، أَيْ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَى بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ ﷿، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّعَاءِ إلَى الْفِعْلِ بِالْإِيعَادِ وَالتَّهْدِيدِ مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا الَّتِي نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى لِصُورَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ وَالضَّرْبَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>