وَجَابِرٌ وَأَنَسٌ ﵃.
وَرُوِيَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ، وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ» حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَصْرُخُ بِهَا صُرَاخًا، وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ ﷺ كَانَ قَارِنًا.
وَرُوِيَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَتَنْفِي الْفَقْرَ» ، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ، وَالتَّمَتُّعَ جَمْعٌ بَيْنَ عِبَادَتَيْنِ بِإِحْرَامَيْنِ، فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ إتْيَانِ عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ مِنْ التَّمَتُّعِ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ، حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ آفَاقِيَّتَانِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ الْآفَاقِ، وَالْمُتَمَتِّعُ عُمْرَتُهُ آفَاقِيَّةٌ، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْآفَاقِ، وَبِالْحَجَّةِ مِنْ مَكَّةَ.
وَالْحَجَّةُ الْآفَاقِيَّةُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجَّةِ الْمَكِّيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] ، وَرَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ﵄ أَنَّهُمَا قَالَا: إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَمَا كَانَ أَتَمَّ فَهُوَ أَفْضَلُ.
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَالْمَشْهُورُ مَا رَوَيْنَا، وَالْعَمَلُ بِالْمَشْهُورِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ فِيمَا رَوَيْنَا زِيَادَةً لَيْسَتْ فِي رِوَايَتِهِ.
وَالزِّيَادَةُ بِرِوَايَةِ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، فَنَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَارِنًا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ بِهِمَا مَرَّةً، وَكَانَ ﷺ يُلَبِّي بِهِمَا لَكِنَّهُ كَانَ يُسَمِّي بِإِحْدَاهُمَا مَرَّةً، إذْ تَسْمِيَةُ مَا يُحْرِمُ بِهِ فِي التَّلْبِيَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّلْبِيَةِ فَرَاوِي الْإِفْرَادِ سَمِعَهُ يُسَمِّي الْحَجَّةَ فِي التَّلْبِيَةِ فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الظَّاهِرِ، فَظَنَّهُ مُفْرِدًا فَرَوَى الْإِفْرَادَ، وَرَاوِي الْقِرَانِ وَقَفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ فَرَوَى الْقِرَانَ.
[فَصْلٌ بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمُحْرِمِ إذَا مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُحْصَرِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فَالْكَلَامُ فِي الْإِحْصَارِ فِي الْأَصْلِ فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ: فِي تَفْسِيرِ الْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا هُوَ، وَمِمَّ يَكُونُ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِحْصَارِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ زَوَالِ الْإِحْصَارِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُحْصَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ، وَفِي عُرْفِ الشَّرْعِ هُوَ اسْمٌ لِمَنْ أَحْرَمَ ثُمَّ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْعُ مِنْ الْعَدُوِّ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الْكَسْرِ أَوْ الْعَرَجِ، وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ مِنْ إتْمَامِ مَا أَحْرَمَ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ شَرْعًا، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا إحْصَارَ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ أُحْصِرُوا مِنْ الْعَدُوِّ، وَفِي آخِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ ﷿: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] وَالْأَمَانُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُمَا قَالَا لَا حَصْرَ إلَّا مِنْ عَدُوٍّ، وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] ، وَالْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ، وَالْمَنْعُ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَنَا لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ؛ إذْ الْحُكْمُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ لَا السَّبَبَ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ، وَأَبِي مُعَاذٍ أَنَّ الْإِحْصَارَ مِنْ الْمَرَضِ، وَالْحَصْرَ مِنْ الْعَدُوِّ.
فَعَلَى هَذَا كَانَتْ الْآيَةُ خَاصَّةً فِي الْمَمْنُوعِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷿ ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] فَالْجَوَابُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ الْأَمْنَ كَمَا يَكُونُ مِنْ الْعَدُوِّ يَكُونُ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَالَ مَرَضُ الْإِنْسَانِ أَمِنَ الْمَوْتَ مِنْهُ أَوْ أَمِنَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ.
وَكَذَا بَعْضُ الْأَمْرَاضِ قَدْ تَكُونُ أَمَانًا مِنْ الْبَعْضِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: ﷺ «الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ» ، وَالثَّانِي - أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ مِنْ الْعَدُوِّ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ الْمُحْصَرِ مِنْ الْمَرَضِ مُرَادًا مِنْهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ ﵄ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ مُطْلَقُ الْكِتَابِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يُرَى نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» ، وَقَوْلُهُ حَلَّ، أَيْ: جَازَ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِغَيْرِ دَمٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ شَرْعًا، وَهُوَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ، وَمَعْنَاهُ: أَيْ حَلَّ لَهُ الْإِفْطَارُ فَكَذَا هَهُنَا مَعْنَاهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مُحْصَرًا مِنْ الْعَدُوِّ، وَمِنْ خِصَالِهِ التَّحَلُّلُ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ، وَالتَّيْسِيرِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ بِإِبْقَائِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ مُدَّةً مَدِيدَةً.
وَالْحَاجَةُ إلَى التَّرْفِيهِ وَالتَّيْسِيرِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْمَرِيضِ وَنَحْوِهِ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ، وَيَثْبُتُ مُوجَبُهُ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ