لِأَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ شَطْرَيْ الرُّكْنِ، وَأَهْلِيَّةُ الْقَبُولِ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ الْكَسْبُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ.
فَإِنْ كَاتَبَهُ فَأَدَّى الْبَدَلَ عَنْهُ رَجُلٌ فَقَبِلَهُ الْمَوْلَى لَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْقَبُولِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَكَانَ أَدَاءُ الْأَجْنَبِيِّ أَدَاءٌ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَعْتِقُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَدَلًا عَنْ الْعِتْقِ وَلَمْ يُسَلَّمْ الْعِتْقَ، وَلَوْ قَبِلَ عَنْهُ الرَّجُلُ الْكِتَابَةَ وَرَضِيَ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَبِلَ الْكِتَابَةَ مِنْ غَيْرِهِ، مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَهَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ، وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ لَهُ مُجِيزٌ وَقْتَ التَّصَرُّفِ، وَهَهُنَا لَا مُجِيزَ لَهُ وَقْتَ وُجُودِهِ إذْ الصَّغِيرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَجَاءَ رَجُلٌ وَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ وَرَضِيَ الْمَوْلَى، أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِجَازَةِ وَقْتَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ عَنْهُ، فَكَانَ لَهُ مُجِيزًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَتَوَقَّفَ.
فَلَوْ أَدَّى الْقَابِلُ عَنْ الصَّغِيرِ إلَى الْمَوْلَى، ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إذَا أَدَّيْت إلَيَّ كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ.
وَقَالَ: وَهَذَا وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَلَى الصَّغِيرِ لَمْ تَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْأَدَاءُ بِغَيْرِ مُكَاتَبَةٍ، فَلَا يَعْتِقُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ، وَالْمَوْلَى إنْ كَانَ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَبْدِ الْعِوَضَ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ، فَيَصِحُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عَنْهُ فُضُولِيٌّ وَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ لِلْقَابِلِ اسْتِرْدَادُ الْمُؤَدَّى، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِمَا قُلْنَا، هَذَا إذَا أَدَّى الْكُلَّ فَإِنْ أَدَّى الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى لِيُسَلَّمَ الْعِتْقَ، وَالْعِتْقُ لَا يُسَلَّمُ بِأَدَاءِ بَعْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فَأَجَازَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْقَابِلُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ اسْتَنَدَ جَوَابُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ وَالْأَدَاءُ حَصَلَ عَنْ عَقْدٍ جَائِزٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْبَاقِي وَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ أَيْضًا، وَإِنْ رُدَّ الْعَبْدُ فِي الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ فِي الرِّقِّ بَلْ تَنْتَهِي فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ قَائِمًا فِي الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاسْتِرْدَادُ، بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ بِأَنَّ مَنْ بَاعَ شَيْئًا ثُمَّ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَنَّ لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مَا دَفَعَ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ كَانَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ عَنْ الزَّوْجِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ مِنْهَا النِّصْفَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَسْخٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا كُلَّ الْمَهْرِ، وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ لِلزَّوْجِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُتَبَرِّعِ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا أَدَّى الْقَابِلُ فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَابِلُ عَنْ الْأَدَاءِ لَا يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا ضَمِنَ، فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِهِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ.
فَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ كَاتَبَهُ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَيَكُونُ كَالْكَبِيرِ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ وَإِذْنُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالتِّجَارَةِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ.
[فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ]
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا، وَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ، لَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِهِمَا لَا يَمْلِكُ وَإِنْ قَبَضَ؟ وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِمَا الْمُكَاتَبَةُ حَتَّى لَا يَعْتِقَ، وَإِنْ أَدَّى لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا كَانَ قَالَ: عَلَيَّ أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِالشَّرْطِ، وَإِذَا عَتَقَ بِالشَّرْطِ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ إنَّمَا هُوَ إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا، وَأَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ عَلَى الْخَمْرِ أَوْ الْخِنْزِيرِ، وَلَا مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ كَانَ مَالًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّهِمْ، فَانْعَقَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى الْفَسَادِ، فَإِنْ أَدَّى يَعْتِقْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ.
أَمَّا الذِّمِّيُّ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ عَلَى