للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يُكْرَهَ إدْخَالُ فِعْلٍ قَلِيلٍ أَوْلَى

وَأَمَّا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ فَقَالَ: قُلْتُ فَإِنْ مَسَحَ جَبْهَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ؟ قَالَ: لَا، أَكْرَهُهُ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَهِمَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ وَجَعَلَ كَلِمَةَ لَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ أَكْرَهُ، وَكَذَا ذُكِرَ فِي آثَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «النَّبِيَّ كَانَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ فِي الصَّلَاةِ» وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ فَكَذَا هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ " لَا " مَقْطُوعَةٌ عَنْ قَوْلِهِ أَكْرَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: هَلْ يَمْسَحُ؟ فَقَالَ: لَا نَفْيًا لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْكَلَامَ وَقَالَ: أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ فَعَلَى هَذَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْحِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ وَبَيْنَ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا قَبْلَ السَّلَامِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَسْحَ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْجُدَ ثَانِيًا فَيَلْتَزِقُ التُّرَابُ بِجَبْهَتِهِ ثَانِيًا وَالْمَسْحُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ مُفِيدٌ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَيُكْرَهُ تَحْصِيلُهُ فِي وَقْتٍ لَا يُبَاحُ فِيهِ الْخُرُوجُ عَنْ الصَّلَاةِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ بِخِلَافِ الْمَسْحِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ مِنْ الْجَفَاءِ وَعَدَّ مِنْهَا مَسْحَ الْجَبْهَةِ فِي الصَّلَاةِ» وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ: جَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَ تَرَكَهُ لَا يُؤْذِيهِ وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ عَلَى الْمَسْحِ بِالْيَدَيْنِ، وَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ تَرْكُ الْمَسْحِ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَمُحَمَّدٌ يُسَاعِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ» ؛ لِأَنَّ التَّرْكَ كَانَ يُؤْذِيهِ وَيُشْغِلُ قَلْبَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ وَمَا يُكْرَه لَهُ فِي فَصْلِ الْإِمَامَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ.

فَالْمُفْسِدُ لَهَا أَنْوَاعٌ، مِنْهَا الْحَدَثُ الْعَمْدُ قَبْلَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا بِلَا خِلَافٍ حَتَّى يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدَثِ السَّابِقِ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِهِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ رُعَافٍ أَوْ دَمٍ سَائِلٍ مِنْ جُرْحٍ أَوْ دُمَّلٍ بِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَيَجُوزُ الْبِنَاءُ اسْتِحْسَانًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْسِدُهَا فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قِيَاسًا، وَالْكَلَامُ فِي الْبِنَاءِ فِي مَوَاضِعَ، فِي بَيَانِ أَصْلِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا؟ ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ لَوْ كَانَ جَائِزًا، وَفِي بَيَانِ مَحَلِّ الْبِنَاءِ وَكَيْفِيَّتِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْبِنَاءُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ كَمَا لَا تَنْعَقِدُ مَعَهُ لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْحَالَيْنِ بِفَوَاتِ الطَّهَارَةِ فِيهِمَا إذْ الشَّيْءُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِيَّتِهِ لَا يَبْقَى مَعَ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَبْقَى التَّحْرِيمَةُ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَدَاءِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى مَعَ الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ وَلِأَنَّ صَرْفَ الْوَجْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْيَ فِي الصَّلَاةِ مُنَافٍ لَهَا وَبَقَاءُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يُنَافِيهِ مُحَالٌ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ النَّصُّ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ انْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» وَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ .

وَأَمَّا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةَ الثَّلَاثَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ قَالُوا مِثْلَ مَذْهَبِنَا.

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى، وَعُمَرُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَعَلِيٌّ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَثَبَتَ الْبِنَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.

[فَصْلٌ شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِي الصَّلَاةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْبِنَاءِ.

فَمِنْهَا الْحَدَثُ السَّابِقُ فَلَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا، وَالْحَدَثُ الْعَمْدُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْحَدَثِ السَّابِقِ؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ مِمَّا يُبْتَلَى بِهِ الْإِنْسَانُ فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ الْبِنَاءِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدَثِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ، وَالثَّانِي الْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا وَكَذَا يَحْتَاجُ إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ أَفْضَلِ الْقَوْمِ خُصُوصًا مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ وَرُبَّمَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ الْوُضُوءِ لَفَاتَ عَلَيْهِ فَضِيلَةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْأَفْضَلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>