للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَا عُرِفَ.

وَقَوْلُهُ: فِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا، قُلْنَا: احْتِمَالُ الرِّبَا هَهُنَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا، كَمَا فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ يَلْزَمُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَلَمْ تُوجَدْ هَهُنَا فَلَا تُوجِبُ الْفَسَادَ وَعَلَى هَذَا إذَا بَاعَ دِينَارًا وَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ الدِّينَارُ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِأَنْ يُجْعَلَ الدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ وَكَذَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَتَكُونُ الْخَمْسَةُ بِمُقَابَلَةِ الْخَمْسَةِ، وَالْخَمْسَةُ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ عِنْدَنَا، وَكَانَتْ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَدِينَارٌ بِدِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إنَّهُ إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَتَكُونُ الْمِائَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ، وَالتُّسْعُمِائَةِ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ، وَفِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ، وَفِي الْجَانِبِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ فُلُوسٌ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، فَقِيلَ: كَيْفَ تَجِدُهُ فِي قَلْبِكَ؟ قَالَ: أَجِدُهُ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى مَا يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ، إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ، أَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً جَازَ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا قَلِيلَ الْقِيمَةِ كَفَلْسٍ وَجَوْزَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا قِيمَةَ لَهُ أَصْلًا كَكَفٍّ مِنْ تُرَابٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا.

[فَصْلٌ فِي شَرَائِطُ جَرَيَانِ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرَائِطُ جَرَيَانِ الرِّبَا (فَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مَعْصُومَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَعْصُومٍ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُسْلِمُ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ الْحَرْبِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ هُنَاكَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَبَايَعَ أَحَدًا مِنْ الْحَرْبِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا كَمَا هِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ، فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كَمَا إذَا بَايَعَ الْمُسْلِمُ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

(وَلَهُمَا) أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ مُنِعَ مِنْ تَمَلُّكِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ، فَإِذَا بَدَّلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى، فَكَانَ الْأَخْذُ اسْتِيلَاءً عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، وَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ كَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا لَيْسَ بِتَمَلُّكٍ بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ شَرْطِ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الرِّضَا؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزُولُ بِدُونِهِ، وَمَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ تَمَلُّكًا، لَكِنَّهُ إذَا زَالَ فَالْمِلْكُ لِلْمُسْلِمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ لَا بِالْعَقْدِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِفَضْلٍ يُسْتَفَادُ بِالْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا بَاعَ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ.

وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَاءِ، فَتَعَيَّنَ التَّمَلُّكُ فِيهِ بِالْعَقْدِ.

وَشَرْطُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ مَا جَازَ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ مِنْ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَا يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِهِمْ إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ، عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مُتَقَوِّمَيْنِ شَرْعًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مَضْمُونَيْنِ حَقًّا لِلْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَضْمُونٍ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَخْرُجُ مَا إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ، فَبَايَعَ رَجُلًا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً فَالتَّقَوُّمُ لَيْسَ بِثَابِتٍ عِنْدَهُ، حَتَّى لَا يَضْمَنَ نَفْسَهُ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَهُ، وَكَذَا مَالُهُ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، وَعِنْدَهُمَا نَفْسُهُ وَمَالُهُ مَعْصُومَانِ مُتَقَوِّمَانِ.

وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ السِّيَرِ وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ فَتَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ

<<  <  ج: ص:  >  >>