لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ، فَكَانَ التَّمَلُّكُ بِالْعَقْدِ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ.
وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ الَّذِي بَايَعَ الْمُسْلِمَ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فَمَا كَانَ مِنْ رِبًا مَقْبُوضٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ مَقْبُوضٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَقْبُوضٍ يَبْطُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٨] ، أَمَرَهُمْ ﷾ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا نَهْيٌ عَنْ قَبْضِهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: اُتْرُكُوا قَبْضَهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقَبْضِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﵊ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي» ، وَالْوَضْعُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطِّ وَالْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يُقْبَضْ، وَلِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ حُرِّمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ فَكَذَا الْقَبْضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ تَقْرِيرُ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ فَيُشْبِهُ الْعَقْدَ فَيَلْحَقُ بِهِ، إذْ هُوَ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِالثَّابِتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا، وَمَتَى حُرِّمَ الْقَبْضُ لَمْ يَكُنْ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ.
(وَمِنْهَا) أَنْ لَا يَكُونَ الْبَدْلَانِ مِلْكًا لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَجْرِي الرِّبَا، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَاعَ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ، فَكَانَ الْبَدَلَانِ مِلْكَ الْمَوْلَى، فَلَا يَكُونُ هَذَا بَيْعًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا، إذْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْبِيَاعَاتِ وَكَذَلِكَ الْمُتَعَاوَضَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ مُبَادَلَةَ مَالِهِ، فَلَا يَكُونُ بَيْعًا وَلَا مُبَادَلَةً حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ الشَّرِيكَانِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ تَبَايَعَا مِنْ غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا فِي غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ أَجْنَبِيَّانِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ.
(أَمَّا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ لَكِنْ مِلْكًا مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ، فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا عَاقَدَ مُكَاتَبَهُ عَقْدَ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حَقِّ الِاكْتِسَابِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى عَنْهَا، فَأَشْبَهَ الْأَجَانِبَ.
(وَأَمَّا) إسْلَامُ الْمُتَبَايِعِينَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَرَيَانِ الرِّبَا، فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ إنْ لَمْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: ١٦١] .
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ: إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا، أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، وَهَذَا فِي نِهَايَةِ الْوَعِيدِ فَيَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْحُرْمَةِ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْخُلُوُّ عَنْ احْتِمَالِ الرِّبَا، فَلَا تَجُوزُ الْمُجَازَفَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبَا كَمَا هِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَاحْتِمَالُ الرِّبَا مُفْسِدٌ لَهُ أَيْضًا، لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁: مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَتْ فِيهِ الْمُفَاضَلَةُ جَازَ فِيهِ الْمُجَازَفَةُ، وَمَا لَا فَلَا؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ وَالْخُلُوَّ عَنْ الرِّبَا فِيمَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا لَمَّا كَانَ شَرْطَ الصِّحَّةِ فَلَا يُعْلَمُ تَحْقِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُجَازَفَةِ، فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ، فَلَا تَثْبُتُ الصِّحَّةُ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي وُجُودِ شَرْطِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، كَمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَسَائِلَ: إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مُجَازَفَةً فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهُمَا، أَوْ عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ عَلِمَا كَيْلَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ عُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْكَيْلِ، فَإِنْ عُلِمَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِنْ عُلِمَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ وَقَالَ زُفَرُ: يَجُوزُ، عُلِمَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَيْلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُ.
(وَلَنَا) أَنَّ عِلْمَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ، وَلَمْ يُوجَدْ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ - أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ ﵊: «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَمَرَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْبَيْعِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ مَعْلُومَةً لَهُمَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِتُمَكِّنَهُمَا مِنْ رِعَايَةِ هَذَا الشَّرْطِ وَكَذَا لَوْ كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ حِنْطَةٌ فَاقْتَسَمَاهَا مُجَازَفَةً لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ، وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهَا مُجَازَفَةً فَكَذَا الْقِسْمَةُ.
وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ،