وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا فِي الْوَزْنِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَكِيلَةٌ، وَالتَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْمَكِيلَاتِ، وَلَا تُعْلَمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ، فَكَانَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مُجَازَفَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ﵀ أَنَّهُ إذَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْوَزْنِ فِيهَا تَصِيرُ وَزْنِيَّةً، وَيَعْتَبِرُ التَّسَاوِي فِيهَا بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْأَصْلِ كَيْلِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا تَخْرُجُ الْمُزَابَنَةُ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنَّهُمَا لَا يَجُوزَانِ؛ لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ التَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِمِثْلِ كَيْلِهِ مِنْ التَّمْرِ خَرْصًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَالزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحَبِّ فِي السُّنْبُلِ بِمِثْلِ كَيْلِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ خَرْصًا لَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ.
فَكَانَ هَذَا بَيْعَ مَالِ الرِّبَا مُجَازَفَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ» ، وَفَسَّرَ مُحَمَّدٌ ﵀ الْمُزَابَنَةَ وَالْمُحَاقَلَةَ فِي الْمُوَطَّإِ بِمَا قُلْنَا، وَهُوَ كَانَ إمَامًا فِي اللُّغَةِ كَمَا كَانَ إمَامًا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ: كَذَلِكَ الْجَوَابُ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَأَمَّا مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» ، فَقَدْ رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّمَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ مَا دُونَ خَمْسَةٍ، وَالْمُرَخَّصُ مِنْ جُمْلَةِ مَا حُرِّمَ يَكُونُ مُبَاحًا وَتَفْسِيرُ الْعَرِيَّةِ - عِنْدَنَا - مَا ذَكَرَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمُوَطَّإِ ﵁ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ نَخِيلٌ فَيُعْطِيَ رَجُلًا مِنْهَا ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ يَلْقُطُهُمَا لِعِيَالِهِ، ثُمَّ يَثْقُلَ عَلَيْهِ دُخُولُهُ حَائِطَهُ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا عِنْدَ إصْرَامِ النَّخْلِ - وَذَلِكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ هُنَاكَ، بَلْ التَّمْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ، فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ لَهُ ثَمَرُ النَّخْلِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ بِمَكِيلَتِهَا مِنْ التَّمْرِ، إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ الرَّاوِي بَيْعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُوَرِ الْبَيْعِ، لَا أَنْ يَكُونَ بَيْعًا حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ عَطِيَّةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُعْرَى لَهُ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ؟ فَكَيْفَ يُجْعَلُ بَيْعًا؟ وَلِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ بَيْعًا لَكَانَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إلَى أَجَلٍ - وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ، دَلَّ أَنَّ الْعَرِيَّةَ الْمُرَخَّصَ فِيهَا لَيْسَتْ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ عَطِيَّةٌ، وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ لُغَةً، قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ﵁:
لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ … وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ.
وَلَوْ اشْتَرَى بِكُرٍّ مِنْ تَمْرٍ نَخْلًا عَلَيْهَا ثَمَرٌ، وَسَمَّى التَّمْرَ أَوْ ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ فِي الْبَيْعِ يُرَاعَى فِي جَوَازِهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كَيْلُ التَّمْرِ أَكْثَرَ مِنْ كَيْلِ الثَّمَرِ؛ لِيَكُونَ الثَّمَرُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ النَّخْلِ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ يَكُونُ بِمِثْلِ كَيْلِهِ، وَزِيَادَةُ التَّمْرِ مَعَ النَّخْلِ تَكُونُ زِيَادَةً لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ، فَيَكُونُ رِبًا.
وَكَذَا إذَا كَانَ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَا يُدْرَى عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ إذَا كَانَ التَّمْرُ نَقْدًا، فَإِنْ كَانَ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ لِتَحَقُّقِ رِبَا النَّسَاءِ هَذَا إذَا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ بُسْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا يَابِسًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ كُفُرَّى جَازَ الْبَيْعُ كَيْفَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْكُفُرَّى بِالتَّمْرِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَيْفَ مَا كَانَ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ كُرًّا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْكُرِّ - لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ، ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَبَاعَهُ مَعَ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ، وَكَيْلُ التَّمْرِ مِثْلُ كَيْلِ ثَمَرِ النَّخْلِ، أَوْ أَقَلُّ - حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَدْخَلَا الرِّبَا فِي الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُمَا قَابَلَا الثَّمَنَ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا، وَبَعْضُ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا، فَدَخَلَ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا، وَاشْتِرَاطُ الرِّبَا فِي الْعَقْدِ مُفْسِدٌ لَهُ، وَهَهُنَا الْبَيْعُ كَانَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ، إذْ الْمَبِيعُ هُوَ النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا زَادَ فَقَدْ صَارَ مَبِيعًا فِي حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا، فَبَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، وَالزِّيَادَةُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي، وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ النَّخْلِ وَقِيمَةِ الزِّيَادَةِ، لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّخْلِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ، فَيَطِيبُ لَهُ مِنْ التَّمْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فَضَلَ لَهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِبَدَلٍ، وَلَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ.
وَلَوْ قَضَى الثَّمَنَ مِنْ التَّمْرِ الْحَادِثِ يُنْظَرُ، إنْ قَضَاهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الثَّمَنُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ أَكَلَهُ الْبَائِعُ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الثَّمَنَ، ثُمَّ قَضَى مِنْهُ جَازَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute