للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

دَيْنَ أَحَدِهِمْ شَارَكَهُ الْبَاقُونَ فِي الْمَقْبُوضِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ أَوْجَبَ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالتَّرِكَةِ، وَحُقُوقُهُمْ فِي التَّعَلُّقِ عَلَى السَّوَاءِ فَكَانَ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَدَلَ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنَ مَبِيعٍ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْقَرْضَ وَيَنْقُدَ الثَّمَنَ وَلَا يُشَارِكَهُ الْغُرَمَاءُ فِي الْمَقْبُوضِ وَالْمَنْقُودِ لِأَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ لَا بِصُورَتِهَا وَالتَّرِكَةُ قَائِمَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِقِيَامِ بَدَلِهَا لِأَنَّ بَدَلَ الشَّيْءِ يَقُومُ مُقَامَةَ كَأَنَّهُ هُوَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إبْطَالًا مَعْنًى وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَنَقَدَهُمَا الْمَهْرَ وَالْأُجْرَةَ لَا يُسَلِّمُ لَهُمَا الْمَنْقُودَ بَلْ الْغُرَمَاءُ يَتْبَعُونَهُمَا وَيُخَاصِمُونَهُمَا بِدُيُونِهِمْ وَكَانُوا أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ أَعْنِي جَعْلَ الْمَنْقُودِ سَالِمًا لَهُمَا إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلٌ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ بَدَلٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَوْفَاةِ وَهِيَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِهِ لِذَلِكَ لَزِمَ الِاسْتِوَاءُ فِي الْقِسْمَةِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُخَرَّجُ تَقْدِيمُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ حَقٌّ وُضِعَ فِي الْمَالِ الْفَارِغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَإِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِلتَّرِكَةِ وَالتَّرِكَةُ مَشْغُولَةٌ بِحَاجَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ جَرَيَانِ الْإِرْثِ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - عَزَّ مِنْ قَائِلٍ ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] وَقَدْ قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَسَوَاءٌ كَانَ دَيْنَ الصِّحَّةِ أَوْ دَيْنَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَا بَيَّنَّا، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ الدُّيُونُ فَالْغُرَمَاءُ يُقَسِّمُونَ التَّرِكَةَ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ بِالْحِصَصِ وَلَوْ تَوَى شَيْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ اقْتَسَمُوا الْبَاقِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ وَيُجْعَلُ التَّاوِي كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلَّقَ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَكَانَ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ دُيُونِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فِي الْإِقْرَار]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَحَلِّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ فَمَحَلُّ تَعَلُّقِ الْحَقِّ هُوَ الْمَالُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُقْضَى مِنْ الْمَالِ لَا مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِكُلِّ مَتْرُوكٍ وَهُوَ مَالٌ مِنْ الْعَيْنِ، وَالدَّيْنُ، وَدِيَةُ الْمَدْيُونِ، وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ الْوَاجِبَةُ لَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا حَتَّى لَا يَصِحَّ عَفْوُهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ عَنْ الْقِصَاصِ حَتَّى انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِهِ وَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَكَانَ حَقَّهُ فَيُصْرَفُ إلَى دُيُونِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ الْمَتْرُوكَةِ.

وَكَذَلِكَ الْمَدْيُونُ إذَا كَانَتْ امْرَأَةً يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَهْرِهَا وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مَالٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَقَارِيرِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ فِي إقْرَارِ الْحُرِّ فَهُوَ الْحُكْمُ فِي إقْرَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَكَانَ هُوَ فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ وَالْحُرُّ سَوَاءً وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِهِ جَازَتْ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَمُحَابَاةُ الْحُرِّ الْمَرِيضِ لَا تَجُوزُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ (وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ انْحِجَارَ الْحُرِّ عَنْ الْمُحَابَاةِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ، وَالْعَبْدُ لَا وَارِثَ لَهُ وَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَحَابَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُحَابَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، كَذَا هَذَا وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ وَفِي يَدِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ أَخَذَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَجَازَتْ الْمُحَابَاةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَأَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْمَبِيعَ، كَالْحُرِّ الْمَرِيضِ إذَا حَابَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى وَارِثٍ، وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَإِمَّا إنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ وَيُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَبْرَأَ الْغَرِيمُ عَنْ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ نَحْوَ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ بَدَلِ صُلْحٍ عَنْ عَمْدٍ أَوْ كَانَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ نَحْوَ بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ، وَسَوَاءٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ.

أَمَّا إذَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالُ فُلَانٍ الْمَرِيضِ

<<  <  ج: ص:  >  >>