للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَدِيعَةُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ قَدْ صَحَّ فَأَوْجَبَ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَيْنِ لِكَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ، وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ لَا يُبْطِلُ التَّعَلُّقَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ يُصَانُ عَنْ الْإِبْطَالِ مَا أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ، وَإِذَا صَارَ مُقِرًّا بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ فَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ كَانَا دَيْنَيْنِ وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى لِأَنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ لَمَّا صَحَّ خَرَجَتْ الْوَدِيعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّعَلُّقِ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يَثْبُتُ التَّعَلُّقُ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَرِيضِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ لَا بِغَيْرِهَا وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْوَدِيعَةِ سَوَاءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

هَذَا إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِالدَّيْنِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ تُقَدَّمُ الدُّيُونُ الظَّاهِرَةُ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي الْقَضَاءِ فَتُقْضَى دُيُونُهُمْ أَوَّلًا مِنْ التَّرِكَةِ فَمَا فَضَلَ يُصْرَفُ إلَى غَيْرِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَسْتَوِيَانِ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ غَرِيمَ الْمَرَضِ مَعَ غَرِيمِ الصِّحَّةِ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَحَالَةُ الْمَرَضِ أَدَلُّ عَلَى الصِّدْقِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَتَدَارَكُ الْإِنْسَانُ فِيهَا مَا فَرَّطَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الصِّدْقَ فِيهَا أَغْلَبُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.

(وَلَنَا) أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ لَمْ يُوجَدْ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ فَرَاغُ الْمَالِ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِهِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ وَلَوْلَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ لَنَفَذَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ التَّبَرُّعُ تَصَرُّفًا مِنْ الْأَصْلِ فِي مَحَلٍّ هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي مِثْلِهِ النَّفَاذُ فَدَلَّ عَدَمُ النَّفَاذِ عَلَى تَعَلُّقِ النَّفَاذِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَلُّقُ فَقَدْ انْعَدَمَ الْفَرَاغُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ مَعْلُومٍ سِوَى إقْرَارِهِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ضَرْبُ عِنَايَةٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أَوْ بَيْنَهُمَا حُقُوقٌ تَبْعَثُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَالصِّلَةِ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيُرِيدُ بِهِ تَحْصِيلَ مُرَادِهِ بِصُورَةِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ الظَّاهِرَةِ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُرَدُّ إقْرَارُهُ بِالتُّهْمَةِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِعَبْدِهِ فِي يَدِهِ أَنَّهُ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَكَانُوا أَحَقَّ بِالْغُرَمَاءِ مِنْ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا وَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْعَبْدِ لِفُلَانٍ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ الْمُقَرُّ بِهِ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ.

(فَأَمَّا) إذَا كَانَ بِأَنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ مَالٍ مَلَكَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَلًا عَنْ مَالٍ اسْتَهْلَكَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَيُقَدَّمَانِ جَمِيعًا عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَمْ يَحْتَمِلْ الرَّدَّ فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ بِإِقْرَارِهِ وَتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ أَوَّلِ الْمَرَضِ وَكَذَا إذَا كَانَ ظَاهِرًا مَعْلُومًا بِسَبَبٍ مَعْلُومٍ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَرَضِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى غُرَمَاءِ الصِّحَّة وَالْمَرْأَةُ تُخَاصِمُهُمْ بِمَهْرِهَا لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ النِّكَاحُ - وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوُجُوبِ الْمَهْرِ - كَانَ وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْلُومًا لِظُهُورِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ فَيَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ ضَرُورَةً يُحَقِّقُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا لَمْ يَجُزْ بِدُونِ وُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالنِّكَاحُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ شَرْعًا وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَلِلصَّحِيحِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمْ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ الْبَاقُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَالِ بَلْ هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَكُونُ فِي إيثَارِ الْبَعْضِ إبْطَالُ حَقِّ الْبَاقِينَ إلَّا أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَمَا قَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ الْمَقْبُوضُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ بَعْضَ غُرَمَائِهِ عَلَى بَعْضٍ، سَوَاءٌ كَانُوا غُرَمَاءَ الْمَرَضِ أَوْ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ قَضَى

<<  <  ج: ص:  >  >>