مِنْ الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ تَكْمِيلُهُ وَهَذَا التَّخْرِيجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَهُنَا فِي الذِّمَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ فِي النِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ رُبُعُ الْعُشْرِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ حَتَّى يَسْقُطَ بِهَلَاكِ النِّصَابِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ.
[فَصْلٌ وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا وَقْتُ وُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ وَقْتُ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ وَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا فَاسْتَغْنَى إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَكَذَا مَنْ مَاتَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَمْ تَجِبْ فِطْرَتُهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْل غُرُوب الشَّمْسِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَا تَجِبُ وَكَذَا إنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَمْ تَجِبْ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ وَجَبَتْ.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ هُوَ الْفِطْرُ؛ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ، وَالْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى السَّبَبِيَّةِ كَإِضَافَةِ الصَّلَوَاتِ إلَى، أَوْقَاتِهَا وَإِضَافَةِ الصَّوْمِ إلَى الشَّهْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَمَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ وَقْتُ الْفِطْرِ فَوَجَبَتْ الصَّدَقَةُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ» .
أَيْ وَقْتُ فِطْرِكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ خَصَّ وَقْتَ الْفِطْرِ بِيَوْمِ الْفِطْرِ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَى الْيَوْمِ، وَالْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ فَيَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْوَقْتِ بِالْفِطْرِ يَظْهَرُ بِالْيَوْمِ وَإِلَّا فَاللَّيَالِي كُلُّهَا فِي حَقِّ الْفِطْرِ سَوَاءٌ فَلَا يَظْهَرُ الِاخْتِصَاصُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ أَيْ صَدَقَةُ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ مُضَافَةً إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا.
وَلَوْ عَجَّلَ الصَّدَقَةَ عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَن عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ سَنَةً وَسَنَتَيْنِ وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا.
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ وَقْتَ وُجُوبِ هَذَا الْحَقِّ هُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَكَانَ التَّعْجِيلُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَإِنَّهُ مُمْتَنِعٌ كَتَعْجِيلِ الْأُضْحِيَّةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ.
وَجْهُ قَوْلِ خَلَفٍ هَذِهِ فِطْرَةٌ عَنْ الصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّوْمِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مِنْ الْيَوْمِ، أَوْ الْيَوْمَيْنِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الشَّرْطَ فَوَجْهُهُ أَنَّ وُجُوبَهَا لِإِغْنَاءِ الْفَقِيرِ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّعْجِيلِ بِيَوْمٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُتَعَجِّلَ يَبْقَى إلَى يَوْمِ الْفِطْرِ فَيَحْصُلُ الْإِغْنَاءُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَبْقَى فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا وَذِكْرُ السَّنَةَ، وَالسَّنَتَيْنِ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَى التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِاسْتِكْثَارِ الْمُدَّةِ أَيْ يَجُوزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الْمُدَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوُجُوبَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَالتَّعْجِيلُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ جَائِزٌ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، وَالْعُشُورِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ وَقْتُ أَدَاء صَدَقَة الْفِطْر]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا وَقْتُ أَدَائِهَا فَجَمِيعُ الْعُمُرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: وَقْتُ أَدَائِهَا يَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ سَقَطَتْ.
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ إنَّ هَذَا حَقٌّ مَعْرُوفٌ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَيَخْتَصُّ أَدَاؤُهُ بِهِ كَالْأُضْحِيَّةِ.
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ فَيَجِبُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ غَيْرَ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، أَوْ بِآخِرِ الْعُمُرِ كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَالْعُشْرِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَدَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَذَا كَانَ يَفْعَلُ وَلِقَوْلِهِ ﷺ «أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ» فَإِذَا أَخْرَجَ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى اسْتَغْنَى الْمِسْكِينُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فَارِغَ الْقَلْبِ مُطْمَئِنَّ النَّفْسِ.
[فَصْلٌ رُكْن صَدَقَة الْفِطْر]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا رُكْنُهَا فَالتَّمْلِيكُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «أَدَّوْا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ، وَالْأَدَاءُ هُوَ التَّمْلِيكُ فَلَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ وَبِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ أَصْلًا وَلَا بِمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ مُطْلَقٍ، وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ذَكَرْنَاهَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ وَشَرَائِطِ الرُّكْنِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ غَيْرَ أَنَّ إسْلَامَ الْمُؤَدَّى إلَيْهِ هَهُنَا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ شَرْطٌ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَى الْحَرْبِيِّ