للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفَجْرِ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا؟» كَأَنَّهُ كَانَ يَطْلُبُ رُؤْيَا فِيهَا بُشْرَى بِفَتْحِ مَكَّةَ.

فَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ أَحَدٌ يُصَلِّي لَا يَسْتَقْبِلْ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الصُّورَةِ الصُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ ﵁ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي إلَى وَجْهِ غَيْرِهِ فَعَلَاهُمَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لِلْمُصَلِّي: أَتَسْتَقْبِلُ الصُّورَةَ، وَلِلْآخَرِ أَتَسْتَقْبِلُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِكَ، وَإِنْ شَاءَ انْحَرَفَ؛ لِأَنَّ بِالِانْحِرَافِ يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ كَمَا يَزُولُ بِالِاسْتِقْبَالِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي كَيْفِيَّةِ الِانْحِرَافِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْحَرِفُ إلَى يَمِينِ الْقِبْلَةِ تَبَرُّكًا بِالتَّيَامُنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْحَرِفُ إلَى الْيَسَارِ لِيَكُونَ يَسَارُهُ إلَى الْيَمِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ انْحَرَفَ يَمْنَةً وَإِنْ شَاءَ يَسْرَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِانْحِرَافِ وَهُوَ زَوَالُ الِاشْتِبَاهِ يَحْصُلُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا.

(وَإِنْ) كَانَتْ صَلَاةً بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ لَهُ الْمُكْثُ قَاعِدًا، وَكَرَاهَةُ الْقُعُودِ مَرْوِيَّةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ ﵃ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ﵄ أَنَّهُمَا كَانَا إذَا فَرَغَا مِنْ الصَّلَاةِ قَامَا كَأَنَّهُمَا عَلَى الرَّضْفِ؛ وَلِأَنَّ الْمُكْثَ يُوجِبُ اشْتِبَاهَ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَلَا يَمْكُثُ وَلَكِنْ يَقُومُ وَيَتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» ، وَعَنْ ابْنَ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَمَّ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَى الدَّاخِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَحَّى إزَالَةً لِلِاشْتِبَاهِ، أَوْ اسْتِكْثَارًا مِنْ شُهُودِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مَكَانَ الْمُصَلِّي يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

(وَأَمَّا) الْمَأْمُومُونَ فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الِانْتِقَالِ لِانْعِدَامِ الِاشْتِبَاهِ عَلَى الدَّاخِلِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ فَرَاغِ مَكَانِ الْإِمَامِ عَنْهُ.

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ أَيْضًا أَنْ يَنْقُضُوا الصُّفُوفَ وَيَتَفَرَّقُوا لِيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ عَلَى الدَّاخِلِ الْمُعَايِنِ الْكُلَّ فِي الصَّلَاةِ الْبَعِيدِ عَنْ الْإِمَامِ، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁.

(وَأَمَّا) الَّذِي هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ هُوَ أَصْلِيٌّ، وَنَوْعٌ هُوَ عَارِضٌ ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ.

[فَصْلٌ الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ]

(فَصْلٌ) :

أَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأَصْلِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ فَسِتَّةٌ: مِنْهَا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ فِي صَلَاةٍ ذَاتِ رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَالثَّلَاثِ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا: فَإِنْ كَانَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَهَذَا عِنْدَنَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَوْ حَرْفًا مِنْهَا فِي رَكْعَةٍ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَقَالَ مَالِكٌ: قِرَاءَتُهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ فَرْضٌ.

(احْتَجَّا) بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ» .

وَرُوِيَ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ مَعَهَا» ، أَوْ قَالَ: وَشَيْءٌ مَعَهَا؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَاظَبَ عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَيَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] ، أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَتَعْيِينُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا أَوْ تَعْيِينُهُمَا نَسَخَ الْإِطْلَاقَ، وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، فَكَيْفَ يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَقَبِلْنَا الْحَدِيثَ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ عَمَلًا حَتَّى تُكْرَهَ تَرْكُ قِرَاءَتِهِمَا دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَمَلًا بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، كَيْ لَا يُضْطَرَّ إلَى رَدِّهِ لِوُجُوبِ رَدِّهِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ، وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى فِعْلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَمِنْهَا) الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيمَا يُجْهَرُ وَهُوَ الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ وَهُوَ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ إذَا كَانَ إمَامًا.

وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَانَ إمَامًا يَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَكَذَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ شَرْطِهَا الْجَمَاعَةُ كَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالتَّرْوِيحَاتِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُخَافَتَةُ فِيمَا يُخَافَتُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ يَتَحَمَّلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْقَوْمِ فِعْلًا، فَيَجْهَرُ لِيَتَأَمَّلَ الْقَوْمُ وَيَتَفَكَّرُوا فِي ذَلِكَ، فَتَحْصُلُ ثَمَرَةُ الْقِرَاءَةِ وَفَائِدَتُهَا لِلْقَوْمِ، فَتَصِيرُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُمْ تَقْدِيرًا، كَأَنَّهُمْ قَرَءُوا.

وَثَمَرَةُ الْجَهْرِ تَفُوتُ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْأَغْلَبِ يَحْضُرُونَ الْجَمَاعَاتِ فِي خِلَالِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَتْ قُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِذَلِكَ، فَيَشْغَلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّأَمُّلِ فَلَا يَكُونُ الْجَهْرُ مُفِيدًا بَلْ يَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِثْمِ بِتَرْكِ التَّأَمُّلِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بِخِلَافِ صَلَاةِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الْحُضُورَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ فِي خِلَالِ الشُّغْلِ، وَبِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى فِي الْأَحَايِينِ مَرَّةً عَلَى هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ وَحُضُورِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَبْعَثَةٌ عَلَى إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالتَّأَمُّلِ؛ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>