وَالْأَرْكَانُ فِي الْفَرَائِضِ تُؤَدَّى عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دُونَ الْإِخْفَاءِ، وَلِهَذَا «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْهَرُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ» إلَى أَنْ قَصَدَ الْكُفَّارُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَادُوا يَلْغُونَ فِيهِ فَخَافَتَ النَّبِيُّ ﷺ بِالْقِرَاءَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْأَذَى فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، وَلِهَذَا كَانَ يَجْهَرُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُمَا بِالْمَدِينَةِ وَمَا كَانَ لِلْكُفَّارِ بِالْمَدِينَةِ قُوَّةُ الْأَذَى، ثُمَّ وَإِنْ زَالَ هَذَا الْعُذْرُ بَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ؛ وَلِأَنَّهُ وَاظَبَ عَلَى الْمُخَافَتَةِ فِيهِمَا فِي عُمْرِهِ فَكَانَتْ وَاجِبَةً؛ وَلِأَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّهَارِ بِالْعَجْمَاءِ وَهِيَ الَّتِي لَا تَبِينُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهَا إلَّا بِتَرْكِ الْجَهْرِ فِيهَا، وَكَذَا وَاظَبَ عَلَى الْجَهْرِ فِيمَا يُجْهَرُ وَالْمُخَافَتَةِ فِيمَا يُخَافَتُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْأُمَّةِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ فِيمَا سِوَى الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ أَوْ خَافَتْ فِيمَا يُجْهَرُ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إسْمَاعُ الْقَوْمِ فِيمَا يُجْهَرُ، وَإِخْفَاءُ الْقِرَاءَةِ عَنْهُمْ فِيمَا يُخَافَتُ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ عَمْدًا يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ، وَسَهْوًا يُوجِبُ سُجُودَ السَّهْوِ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُخَافَتُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ خَافَتَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ، وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ إنْ زَادَ عَلَى مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ فَقَدْ أَسَاءَ.
وَذَكَرَ عِصَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَثْبَتَ لَهُ خِيَارَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، اسْتِدْلَالًا بِعَدَمِ وُجُوبِ السَّهْوِ عَلَيْهِ إذَا جَهَرَ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِقَوْلِهِ ﷺ: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَعَ حَاجَتِهِ إلَى إسْمَاعِ غَيْرِهِ يُخَافِتُ فَالْمُنْفَرِدُ أَوْلَى وَلَوْ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا يَكُونُ مُسِيئًا، كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَابِ السَّهْوِ بِخِلَافِ الْإِمَامِ.
(وَالْفَرْقُ) أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ يَجِبُ لِجَبْرِ النُّقْصَانِ، وَالنُّقْصَانُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ إسَاءَتَهُ أَبْلَغُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ شَيْئَيْنِ نُهِيَ عَنْهُمَا: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرَّفْعِ، وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَسْمَعَ مَنْ أُمِرَ بِالْإِخْفَاءِ عَنْهُ، وَالْمُنْفَرِدُ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَطْ فَكَانَ النُّقْصَانُ فِي صَلَاتِهِ أَقَلَّ، وَمَا وَجَبَ لِجَبْرِ الْأَعْلَى لَا يَجِبُ لِجَبْرِ الْأَدْنَى وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةً يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ إنْ شَاءَ جَهَرَ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ أُذُنَيْهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَكَرَ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ مُفَسَّرًا أَنَّهُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَأَسْمَعَ نَفْسَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ الْقِرَاءَةَ، أَمَّا كَوْنُ لَهُ أَنْ يَجْهَرَ فَلِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ إمَامٌ فِي نَفْسِهِ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ.
وَلَهُ أَنْ يُخَافِتَ بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَهْرِ لِإِسْمَاعِ غَيْرِهِ وَالْمُنْفَرِدُ يَحْتَاجُ إلَى إسْمَاعِ نَفْسِهِ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْمُخَافَتَةِ، وَذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ أَنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِالْجَمَاعَةِ، وَالْمُنْفَرِدُ إنْ عَجَزَ عَنْ تَحْقِيقِ الصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ، وَلِهَذَا إذَا أَذَّنَ وَأَقَامَ كَانَ أَفْضَلَ هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعَاتِ فَإِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ يُخَافِتُ، وَإِنْ كَانَ فِي اللَّيْلِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَافَتَ وَإِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَرَائِضِ كَذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ بِجَمَاعَةٍ كَمَا فِي التَّرَاوِيحِ يَجِبُ الْجَهْرُ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الْفَرَائِضِ، وَقَدْ رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى بِاللَّيْلِ سُمِعَتْ قِرَاءَتُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ» .
وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ ﵁ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ بِاللَّيْلِ وَيُخْفِي الْقِرَاءَةَ، وَمَرَّ بِعُمَرَ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، وَمَرَّ بِبِلَالٍ وَهُوَ يَتَهَجَّدُ وَيَنْتَقِلُ مِنْ سُورَةٍ إلَى سُورَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ﵁: كُنْتُ أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي. وَقَالَ عُمَرُ ﵁: كُنْتُ أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَقَالَ بِلَالٌ ﵁: كُنْتُ أَنْتَقِلُ مِنْ بُسْتَانٍ إلَى بُسْتَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكِ قَلِيلًا، وَيَا عُمَرُ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ قَلِيلًا، وَيَا بِلَالُ إذَا فَتَحْتَ سُورَةً فَأَتِمَّهَا» ، ثُمَّ الْمُنْفَرِدُ إذَا خَافَتَ وَأَسْمَعَ أُذُنَيْهِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ الْقِرَاءَةِ بِيَقِينٍ، إذْ السَّمَاعُ بِدُونِ الْقِرَاءَةِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا إذَا صَحَّحَ الْحُرُوفَ بِلِسَانِهِ وَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يُسْمِعْ أُذُنَيْهِ وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ وَخُرُوجِ الْحُرُوفِ مِنْ مَخَارِجِهَا - فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاتُهُ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ الْبَلْخِيّ الْمَعْرُوفِ بِالْأَعْمَشِ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute