للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ اتَّصَلَ بِهَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ الْمَقْبُوضَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّهَا تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَنَعَمْ لَكِنْ بِوَصْفِهَا لَا بِأَصْلِهَا بَلْ هِيَ صِلَةٌ بِأَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّلَةِ فَيُرَاعِي فِيهَا الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: إنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: إنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصِّلَاتِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا: لَا يَثْبُتُ فِيهَا الرُّجُوعُ كَالْأَعْوَاضِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

[فَصْلٌ فِي نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ فَالْكَلَامُ فِيهَا أَيْضًا يَقَعُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَهِيَ بَيَانُ وُجُوبِ هَذِهِ النَّفَقَةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا وَشَرْطُ الْوُجُوبِ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ وَكَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ وَمَا يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ بَيَانُ الْوُجُوبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: الْقَرَابَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ، وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا: قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ كَالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَقَرَابَةٌ غَيْرُ مُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ فَلِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] أَيْ: أَمَرَ رَبُّك وَقَضَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ.

أَمَرَ ﷾ وَوَصَّى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا حَالَ فَقْرِهِمَا مِنْ أَحْسَنِ الْإِحْسَانِ وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨] وقَوْله تَعَالَى ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: ١٤] وَالشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ هُوَ الْمُكَافَأَةُ لَهُمَا أَمَرَ ﷾ الْوَلَدَ أَنْ يُكَافِئَ لَهُمَا وَيُجَازِيَ بَعْضَ مَا كَانَ مِنْهُمَا إلَيْهِ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْبِرِّ وَالْعَطْفِ عَلَيْهِ وَالْوِقَايَةِ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ وَذَلِكَ عِنْدَ عَجْزِهِمَا عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَنْفُسِهِمَا وَالْحَوَائِجِ لَهُمَا وَإِدْرَارُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا حَالَ عَجْزِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا مِنْ بَابِ شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: ١٥] وَهَذَا فِي الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ فَالْمُسْلِمَانِ أَوْلَى وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ مِنْ أَعْرَفِ الْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ ﷿ ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا﴾ [الإسراء: ٢٣] وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَلَامٍ فِيهِ ضَرْبُ إيذَاءٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى التَّأَذِّي بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ عَجْزِهِمَا وَقُدْرَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ النَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيًا عَنْ تَرْكِ الْإِنْفَاقِ دَلَالَةً، كَمَا كَانَ نَهْيًا عَنْ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ دَلَالَةً.

وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﵁ أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَهُ أَبُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَإِنَّ لِي أَبًا وَلَهُ مَالٌ وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك» أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْحَقِيقَةُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ» وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَمَّا بِآخِرِهِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ ﷺ أَطْلَقَ لِلْأَبِ الْأَكْلَ مِنْ كَسْبِ وَلَدِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْعِوَضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.

وَأَمَّا بِأَوَّلِهِ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ أَيْ: كَسْبُ وَلَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ كَسْبَ الرَّجُلِ أَطْيَبَ الْمَأْكُولِ وَالْمَأْكُولُ كَسْبُهُ لَا نَفْسُهُ وَإِذَا كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَسْبَهُ كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهِ وَلِأَنَّ وَلَدَهُ لَمَّا كَانَ مِنْ كَسْبِهِ؛ كَانَ كَسْبُ وَلَدِهِ كَكَسْبِهِ وَكَسْبُ كَسْبِ الْإِنْسَانِ كَسْبُهُ، كَكَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ.

وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] إلَى قَوْلِهِ ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٣] أَيْ: رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُنْقَضِيَاتِ الْعِدَّةِ؛ فَفِيهَا إيجَابُ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَهُوَ الْأَبُ لِأَجْلِ الْوَلَدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٦] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ (هُنَّ) الْمَنْكُوحَاتِ أَوْ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى فَضْلِ إطْعَامٍ وَفَضْلِ كِسْوَةٍ لِمَكَانِ الرَّضَاعِ.

أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ إذَا كَانَتْ صَائِمَةً لِزِيَادَةِ حَاجَتِهَا إلَى الطَّعَامِ بِسَبَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>