للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا تَبَرُّوا وَيَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى﴾ [النور: ٢٢] أَيْ لَا يُؤْتَوْا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً أَيْ لَا تَحْلِفُوا لِكَيْ تَبَرُّوا فَتَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً بِالْحِنْثِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرْكِ التَّعْظِيمِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْيَمِينِ، يُقَالُ فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ أَيْ لَا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقَعُونَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا نَهْيًا عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنِ الْحَالِفُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ أَوْ غَالِبِ الرَّأْيِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ -.

وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ فَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا نَحْوَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا.

[فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ ثُمَّ الْمُقْسَمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ اسْمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً وَالِاسْمُ قَدْ يَكُونُ مَذْكُورًا وَقَدْ يَكُونُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ كِنَايَةً، أَمَّا الِاسْمُ صَرِيحًا فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا خَاصًّا لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - نَحْوُ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ أَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَعَلَى غَيْرِهِ كَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْحَلِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَلَكِنْ تُعَيِّنُ الْخَالِقَ مُرَادًا بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِي أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.

وَحُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَنْ قَالَ وَالرَّحْمَنِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَالِفٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ بِحَرْفِ الْبَاءِ أَوْ الْوَاوِ أَوْ التَّاءِ بِأَنْ قَالَ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِكُلِّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] وَقَالَ: ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾ [الأنبياء: ٥٧] وَقَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ [يوسف: ٨٥] وَقَالَ ﷿ ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [النحل: ٦٣] وَقَالَ ﷿ ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٠٩] وَقَالَ ﷿ ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾ [التوبة: ٥٦] وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَدَعْ» إلَّا أَنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَمَا سِوَاهَا دَخِيلٌ قَائِمٌ مَقَامَهَا، فَقَوْلُ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ وَهُوَ إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ وَرَبْطُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ الْبَاءَ حَرْفَ إلْصَاقٍ وَحَرْفَ الرَّبْطِ وَحَرْفَ الْآلَةِ وَالتَّسْبِيبِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَقَدْ أَلْصَقْتَ الْفِعْلَ بِالِاسْمِ وَرَبَطْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَكَانَ الْقَلَمُ آلَةَ الْكِتَابَةِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهَا فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ فَقَدْ أَلْصَقَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: احْلِفْ بِالِاسْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِاَللَّهِ وَجَعَلَ اسْمَ اللَّهِ آلَةً لِلْحَلِفِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أُسْقِطَ قَوْلُهُ أَحْلِفُ وَاكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعَرَبِ مِنْ حَذْفِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَعْضِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ بِاسْمِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خُفِضَ الِاسْمُ لِأَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْخَفْضِ وَالْوَاوُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَاءَ هُوَ الْمَذْكُورُ وَكَذَا التَّاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَاوِ فَكَانَ الْوَاوَ هُوَ الْمَذْكُورُ إلَّا أَنَّ الْبَاءَ تُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُقْسَمُ بِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَذَا الْوَاوُ.

فَأَمَّا التَّاءُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ تَاللَّهِ وَلَا تَقُولُ تَالرَّحْمَنِ وَتَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ بِأَنْ قَالَ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «حَلَّفَ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَقَالَ: اللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِالْبَتِّ إلَّا وَاحِدَةً» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْكَسْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَكَرَ اللَّهَ بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ ﷺ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ وَاحِدٌ وَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ: خَيْرٍ عَافَاكَ اللَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ هَلْ يَكُونُ يَمِينًا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الرَّاءَ تُوضَعُ مَوْضِعَ اللَّامِ يُقَالُ آمَنَ بِاَللَّهِ وَآمَنَ لَهُ بِمَعْنًى.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ [طه: ٧١] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ [الأعراف: ١٢٣] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ وَرَبِّي وَرَبِّ الْعَرْشِ أَوْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ حَالِفًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ.

(وَأَمَّا) الصِّفَةُ فَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهَا كُلَّهَا لِذَاتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ إلَّا فِي الصِّفَةِ نَفْسِهَا فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي

<<  <  ج: ص:  >  >>