للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ التَّسْلِيمُ فِي الْوَقْفِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ، وَفِي الْمَسْجِدِ أَنْ يُصَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ بِإِذْنِهِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ فَصَلَّى وَاحِدٌ كَانَ تَسْلِيمًا، وَيَزُولُ مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَشْرُطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ شَيْئًا، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ (وَجْهُ) قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَعْلُهُ خَالِصًا لَهُ، وَشَرْطُ الِانْتِفَاعِ لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ الْإِخْلَاصَ فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْوَقْفِ، كَمَا إذَا جَعَلَ أَرْضَهُ أَوْ دَارِهِ مَسْجِدًا وَشَرَطَ مِنْ مَنَافِعِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ خِدْمَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ أَنَّهُ وَقَفَ وَشَرَطَ فِي وَقْفِهِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ يَلِي أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ بَيْعَ الْوَقْفِ وَصَرْفَ ثَمَنِهِ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ شَرْطٌ لَا يُنَافِيهِ الْوَقْفُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ بَابُ الْمَسْجِدِ إذَا خَلِقَ، وَشَجَرُ الْوَقْفِ إذَا يَبِسَ (وَمِنْهَا) أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُف ذِكْرُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ بَلْ يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ، وَيَكُونُ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ثَبَتَ الْوَقْفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمْ هَذَا الشَّرْطُ ذِكْرًا وَتَسْمِيَةً وَلِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ هَذَا الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا، وَلَهُمَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِ الْوَقْفِ لِمَا نَذْكُرُ، وَتَسْمِيَةُ جِهَةٍ تَنْقَطِعُ تَوْقِيتٌ لَهُ مَعْنًى فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ (وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ فَهُوَ التَّأْبِيدُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا حَتَّى لَوْ وَقَّتَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى حَدٍّ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَالْإِعْتَاقِ وَجَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا.

[فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ فَأَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدَ لِكَوْنِهِ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا إلَّا إذَا كَانَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ، بِأَنْ وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ فَيَجُوزُ، كَذَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَجَوَازُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ، وَالطَّرِيقُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَالدَّارِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا جَرَتْ الْعَادَةُ بِوَقْفِهِ، كَوَقْفِ الْمَرِّ وَالْقَدُومِ لِحَفْرِ الْقُبُورِ، وَوَقْفِ الْمِرْجَلِ لِتَسْخِينِ الْمَاءِ، وَوَقْفِ الْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا.

وَلَوْ وَقَفَ أَشْجَارًا قَائِمَةً، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ؛ لِأَنَّهُ وَقَفَ الْمَنْقُولَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ وَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا بَيْعُ مَا هَرِمَ مِنْهَا، أَوْ صَارَ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ، كَأَنَّهُمَا تَرَكَا الْقِيَاسَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَكْرَاعًا وَأَفْرَاسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى» وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ وَقَفَ ذَلِكَ فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: حَبَسَهُ، أَيْ أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ (وَأَمَّا) وَقْفُ الْكُتُبِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَأَمَّا) عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، وَحُكِيَ عَنْ نَصْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ (وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَقْسُومًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَجُوزُ مَقْسُومًا كَانَ أَوْ مُشَاعًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالشُّيُوعُ يُخِلُّ بِالْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ الْخَلُّ فِيهِ مَانِعًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَيِّدنَا عُمَرَ أَنَّهُ مَلَكَ مِائَةَ سَهْمٍ بِخَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «احْبِسْ أَصْلَهَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَقْفِ، وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَعْدَهَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَقْفَ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَيُحْمَلُ أَنَّهُ وَقَفَهَا شَائِعًا ثُمَّ قَسَّمَ وَسَلَّمَ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ وَهَبَ مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَ وَسَلَّمَ.

[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا حُكْمُ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ: فَالْوَقْفُ إذَا جَازَ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَزُولُ

<<  <  ج: ص:  >  >>