حَرَامٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْوُجُوبَ فِي الْوَقْتِ ثَبَتَ مُطْلَقًا عَنْ الْفَوْرِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ كَانَ لِعُذْرٍ لَهُ، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ الْعُذْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ التَّعْجِيلَ أَفْضَلُ، وَالرَّسُولُ ﷺ: لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا لِعُذْرٍ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ هُوَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ فَوَاتٌ لِعِلْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُ يَحُجُّ قَبْلَ مَوْتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [الفتح: ٢٧] .
وَالثُّنْيَا لِلتَّيَمُّنِ، وَالتَّبَرُّكِ أَوْ لِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْجَمَاعَةَ.
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمُوتُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ عَمَلًا فِي احْتِمَالِ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي الْإِمْكَانِ لَا فِي إخْرَاجِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ، وَقْتًا لِلْوَاجِبِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّعْجِيلِ إنَّمَا كَانَ تَحَرُّزًا عَنْ الْفَوَاتِ فَإِذَا عَاشَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَالَ احْتِمَالُ الْفَوَاتِ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ فِي وَقْتِهِ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ شَرَائِطُ فَرْضِيَّة الْحَجِّ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ فَرْضِيَّتِهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ وَنَوْعٌ يَخُصُّ النِّسَاءَ أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ الرِّجَالَ، وَالنِّسَاءَ فَمِنْهَا: الْبُلُوغُ، وَمِنْهَا الْعَقْلُ فَلَا حَجَّ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِطَابَ عَلَيْهِمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا الْحَجُّ حَتَّى لَوْ حَجَّا، ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ فَعَلَيْهِمَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَمَا فَعَلَهُ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَكُونُ تَطَوُّعًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» .
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَوْ حَجَّ الْكَافِرُ ثُمَّ أَسْلَمَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا حَجَّ فِي حَالِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ، وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ» يَعْنِي أَنَّهُ إذَا حَجَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ.
وَكَذَا لَا حَجَّ عَلَى الْكَافِرِ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ بِالتَّرْكِ وَعِنْد الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ حَتَّى يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ فِي الْآخِرَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكُفَّارِ لَا يُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ: عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ، وَهَذَا يُعْرَفُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٩٧] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] ، وَبِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَشْمَلُ الْحَجَّ، وَغَيْرَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِيجَابِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَدَاءِ بِتَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمَتْبُوعِ تَبَعًا، وَالتَّبَعِ مَتْبُوعًا، وَأَنَّهُ قَلَبَ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي (كِتَابِ الزَّكَاةِ) وَتَخْصِيصُ الْعَامِّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ جَائِزٌ.
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا حَجَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا أُعْتِقَ» ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الِاسْتِطَاعَةَ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ [آل عمران: ٩٧] ، وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا مِلْكَ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى بِالْحَجِّ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَالِكًا إلَّا بِالْإِذْنِ فَلَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَا حَجَّ فِي حَالِ الرِّقِّ تَطَوُّعًا، وَلِأَنَّ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِذْنِ، وَعَدَمِ الْإِذْنِ، فَلَا يَقَعُ حَجُّهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا حَجَّ بِالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَيْسَرَ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ بِمِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ، وَمَنَافِعِ الْبَدَنِ شَرْطُ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُقَامُ بِالْمَالِ، وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً، وَالْفَقِيرُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ نَفْسِهِ إذْ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِلْكُ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ وَإِنَّهُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ، فَامْتَنَعَ الْوُجُوبُ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِذَا بَلَغَ مَكَّةَ، وَهُوَ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ بِالْمَشْيِ، وَقَلِيلِ زَادٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، فَإِذَا أَدَّى وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ فَمَنَافِعُ بَدَنِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً مَا دَامَ عَبْدًا فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَانْتِهَاءً فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْفَقِيرَ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ يُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ كَامِلٍ كَسَائِرِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ الْقِتَالُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ