للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثٌ لَا سَلَامَ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وَمِثْلُهُ لَا يُكَذَّبُ؛ وَلِأَنَّ الْوِتْرَ نَفْلٌ عِنْدَهُ وَالنَّوَافِلُ اتِّبَاعُ الْفَرَائِضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَظِيرًا مِنْ الْأُصُولِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ غَيْرُ مَعْهُودَةٍ فَرْضًا وَحَدِيثُ التَّخْيِيرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا قَبْلَ اسْتِقْرَارِ أَمْرِ الْوِتْرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا.

[فَصْلٌ بَيَانُ وَقْتِ الْوِتْرِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِهِ.

فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ أَصْلِ الْوَقْتِ، وَفِي بَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ.

أَمَّا أَصْلُ الْوَقْتِ فَوَقْتُ الْعِشَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاؤُهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مَعَ أَنَّهُ وَقْتُهُ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرْتِيبُ إلَّا إذَا كَانَ نَاسِيًا كَوَقْتِ أَدَاءِ الْوَقْتِيَّةِ وَهُوَ وَقْتُ الْفَائِتَةِ لَكِنَّهُ شُرِعَ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقْتُهُ بَعْدَ أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ، سُنَّةٌ وَيُبْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَأَوْتَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَعَادَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْوَقْتِ لَا تَبَعًا لِلْعِشَاءِ فَكَمَا غَابَ الشَّفَقُ دَخَلَ وَقْتُهُ كَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ إلَّا أَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَاجِبٌ حَالَةَ التَّذَكُّرِ فَعِنْدَ النِّسْيَانِ يَسْقُطُ كَمَا فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ الَّتِي لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ يَجِبُ تَرْتِيبُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ، ثُمَّ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ عَلَى الظُّهْرِ عِنْدَ النِّسْيَانِ كَذَا هَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وَقْتَهُ مَا ذَكَرْنَا لَا مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْوِتْرِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الْعِشَاءِ وَلَوْ كَانَ وَقْتُهَا ذَلِكَ لَمَا وَجَبَ قَضَاؤُهَا إذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وَقْتُهَا لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ مَا بَعْدَ فِعْلِ الْعِشَاءِ بِدُونِ فِعْلِ الْعِشَاءِ، هَذَا هُوَ تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.

وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ وَقْتُهُ مَا بَعْدَ وَقْتِ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا لِلْعِشَاءِ كَوَقْتِ رَكْعَتِي الْفَجْرِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ: «زَادَكُمْ صَلَاةً وَجَعَلَهَا لَكُمْ مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» وَوُجُودُ مَا بَيْنَ شَيْئَيْنِ سَابِقًا عَلَى وُجُودِهِمَا مُحَالٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّ إطْلَاقَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْعِشَاءِ لَا يَنْفِي الْإِطْلَاقَ قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا صَلَّى الْوِتْرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الْعِشَاءَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يُعِيدُ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ وَهُوَ ذَاكِرٌ أَنَّهُ لَمْ يُوتِرْ وَفِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مُلْحَقٌ بِالْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْضِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ.

وَلَوْ تَرَكَ الْوِتْرَ عِنْدَ وَقْتِهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ كَالْفَرْضِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُشْكِلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا، وَكَذَا الْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يَقْضِيَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُمَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا فِي الْقَضَاءِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ «مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرٍ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إذَا ذَكَرَهُ» فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهُ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ مَا إذَا تَذَكَّرَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ احْتِيَاطًا.

وَأَمَّا الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ لِلْوِتْرِ فَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ «تَارَةً كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي وَسَطِ اللَّيْلِ وَتَارَةً فِي آخِرِ اللَّيْلِ ثُمَّ صَارَ وِتْرُهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ» ، وَقَالَ النَّبِيُّ «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ» وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَخَافُ فَوْتَهُ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ فَوْتَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنَامَ إلَّا عَنْ وِتْرٍ «، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ يُوتِرُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَعُمَرُ كَانَ يُوتِرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَالَ النَّبِيُّ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخَذْتَ بِالثِّقَةِ وَقَالَ لِعُمَرَ: أَخَذْتَ بِفَضْلِ الْقُوَّةِ» .

[فَصْلٌ صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا صِفَةُ الْقِرَاءَةِ فِيهِ.

فَالْقِرَاءَةُ فِيهِ فَرْضٌ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا أَمَّا عِنْدَهُمْ فَلَا يُشْكِلُ؛ لِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لَكِنَّ الْوَاجِبَ مَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَرْضٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفْلٌ لَكِنْ يُرَجَّحُ جِهَةُ الْفَرْضِيَّةِ فِيهِ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيُجْعَلُ وَاجِبًا مَعَ احْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ فَإِنْ كَانَ فَرْضًا يُكْتَفَى بِالْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَغْرِبِ، وَإِنْ كَانَ نَفْلًا يُشْتَرَطُ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا كَمَا فِي النَّوَافِلِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِهَا فِي الْكُلِّ لَمْ يَذْكُرْ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَدْرَ

<<  <  ج: ص:  >  >>