مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِيَّ نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ﵀، وَلَكِنَّهَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا، وَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ النِّصْفُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ، وَإِنَّمَا سَمَّى لِنَفْسِهِ النِّصْفَ فَقَطْ، وَتَسْمِيَتُهُ لِنَفْسِهِ لَغْوٌ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِي حَقِّ الْمُضَارَبَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْتَضِي الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ، فَكَانَ تَسْمِيَةُ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ لِنَفْسِهِ تَسْمِيَةَ الْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ، كَأَنَّهُ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لَكَ النِّصْفَ كَمَا فِي مِيرَاثِ الْأَبَوَيْنِ فِي قَوْلِهِ ﷾ ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ [النساء: ١١] لَمَّا كَانَ مِيرَاثُ الْمَيِّتِ لِأَبَوَيْهِ وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ﷿ لِلْأُمِّ مِنْهُ الثُّلُثَ كَانَ ذَلِكَ جَعَلَ الْبَاقِي لِلْأَبِ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ وَلَكَ ثُلُثُهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، فَالثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ، وَاسْتِحْقَاقَ رَبِّ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مِنْ نَمَاءِ مَالِهِ، فَإِذَا سَلَّمَ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ يُسَلِّمُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ، وَهُوَ الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ نَمَاءِ مَالِهِ.
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ ﷿ فَهُوَ بَيْنَنَا جَازَ ذَلِكَ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ (الْبَيْنَ) كَلِمَةُ قِسْمَةٍ، وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ إذَا لَمْ يُبَيَّنْ فِيهَا مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ [القمر: ٢٨] وَقَدْ فُهِمَ مِنْهَا التَّسَاوِي فِي الشِّرْبِ قَالَ اللَّهُ ﷾: ﴿هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥] هَذَا إذَا شُرِطَ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لِأَحَدِهِمَا، إمَّا الْمُضَارِبُ وَإِمَّا رَبُّ الْمَالِ، وَسَكَتَ عَنْ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا شَرَطَ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا، بِأَنْ شَرَطَ فِيهِ الثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالثُّلُثَ لِثَالِثٍ سِوَاهُمَا، فَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ كَانَ ابْنَ الْمُضَارِبِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ جَازَ، وَكَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الْعَمَلَ لَمْ يَجُزْ، وَمَا شَرَطَ لَهُ يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ وَلَا مَالٍ، وَصَارَ الْمَشْرُوطُ لَهُ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ عَبْدَ الْمُضَارِبِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ إنْ شَرَطَ عَمَلَهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ، فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ فَمَا شَرَطَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَجْنَبِيِّ
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: الْمَشْرُوطُ لَهُ يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُمَا، كَمَا يَمْلِكُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا أَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنْ شَرَطَ عَمَلَهُ فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إكْسَابَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَمَلَهُ فَمَا شَرَطَ لَهُ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا.
وَعِنْدَهُمَا مَا شُرِطَ لَهُ فَهُوَ مَشْرُوطٌ لِمَوْلَاهُ، عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي عَبْدِ الْمُضَارِبِ الثُّلُثَانِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى، فَكَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مَشْرُوطًا لِلْمَوْلَى، وَصَارَ كَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ الثُّلُثَيْنِ، وَفِي عَبْدِ رَبِّ الْمَالِ الثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَانِ لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ يَكُونُ مَشْرُوطًا لِمَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَصَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَيْنِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ إنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ، وَالثُّلُثَ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالثُّلُثَ لِقَضَاءِ دَيْنِ رَبِّ الْمَالِ إنَّ الثُّلُثَيْنِ لِرَبِّ الْمَالِ، وَالثُّلُثَ لِلْمُضَارِبِ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِقَضَاءِ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَشْرُوطٌ لَهُ.
[فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ رُكْنِ الْمُضَارَبَةِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الرِّبْحِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ وَهُمَا رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ، فَأَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ، وَهَذَا مَعْنَى التَّوْكِيلِ، وَقَدْ ذَكَرَ شَرَائِطَ أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَالْوَكَالَةِ، فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُهُمَا فَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بَيْن أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ مَالَهُ إلَى مُسْلِمٍ مُضَارَبَةً، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ مَالَهُ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ، وَالْمُضَارَبَةُ مَعَ الذِّمِّيِّ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ، فَكَذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْمُسْلِمُ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَمِلَ بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَ رَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ فَصَارَ كَأَنَّهُمَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ.
وَإِنْ