كَانَ الْمُضَارِبُ هُوَ الْحَرْبِيَّ، فَرَجَعَ إلَى دَارِهِ الْحَرْبِيُّ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا إنْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ مُعَاهِدًا أَوْ بِأَمَانٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبْطُلَ الْمُضَارَبَةُ.
(وَجْهُ) الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ أَمَانُهُ وَعَادَ إلَى حُكْمِ الْحَرْبِ كَمَا كَانَ، فَبَطَلَ أَمْرُ رَبِّ الْمَالِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّصَرُّفِ فَمَلَكَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ صَارَ كَأَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَخَلَ مَعَهُ.
وَلَوْ دَخَلَ رَبُّ الْمَالِ مَعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَبْطُلْ الْمُضَارَبَةُ، فَكَذَا إذَا دَخَلَ بِأَمْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدُّخُولِ انْقَطَعَ حُكْمُ رَبِّ الْمَالِ عَنْهُ، فَصَارَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ فَمَلَكَ الْأَمْرَ بِهِ وَقَدْ قَالُوا فِي الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، فَدَفَعَ إلَيْهِ حَرْبِيٌّ مَالًا مُضَارَبَةً مِائَةَ دِرْهَمٍ، أَنَّهُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزٌ، فَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَلَى هَذَا وَرَبِحَ أَوْ وُضِعَ فَالْوَضِيعَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَ، وَيَسْتَوْفِي الْمُضَارِبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ إلَّا مِائَةً فَهِيَ كُلُّهَا لِلْمُضَارِبِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ فَذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ أَيْضًا، وَلَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمِائَةَ إلَّا مِنْ الرِّبْحِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَهَذَا فَرَّعَ اخْتِلَافَهُمْ فِي جَوَازِ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَا عُلِمَ.
(وَأَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَنْوَاعٌ.
(مِنْهَا) أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ ﵀: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ رِبْحَ مَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا، وَالْمُعَيَّنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَارِبِ، فَالرِّبْحُ عَلَيْهَا يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ.
«وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» ، وَمَا لَا يُتَعَيَّنُ يَكُونُ مَضْمُونًا عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْعَيْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَعَلَى الْمُشْتَرِي بِهِ ضَمَانُهُ، فَكَانَ الرِّبْحُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَيَكُونُ رِبْحَ الْمَضْمُونِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ تُعْرَفُ بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ، وَالْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُنَازَعَةُ تُفْضِي إلَى الْفَسَادِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَدْ قَالُوا: إنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ عُرُوضًا، فَقَالَ لَهُ: بِعْهَا وَاعْمَلْ بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فِيهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ الْمُضَارَبَةَ إلَى الْعُرُوضِ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَإِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا، أَنَّهُ يَبِيعُ بِالْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا، إلَّا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إلَى مَا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الْأَثْمَانِ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُضَافَةً إلَى مَا لَا يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ.
(وَأَمَّا) تِبْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ، وَجَعَلَهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مَوْكُولٌ إلَى التَّعَامُلِ، فَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ.
(وَأَمَّا) الزُّيُوفُ وَالنَّبَهْرَجَةِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا، ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ ﵀؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ كَالْجِيَادِ.
(وَأَمَّا) السَّتُّوقَةُ فَإِنْ كَانَتْ لَا تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ، وَإِنْ كَانَتْ تُرَوَّجُ فَهِيَ كَالْفُلُوسِ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَسَدَتْ عِنْدَهُمْ وَصَارَتْ سِلْعَةً.
قَالَ: وَلَوْ أَجَزْتُ الْمُضَارَبَةَ بِهَا، أَجَزْتُهَا بِمَكَّةَ بِالطَّعَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَبَايَعُونَ بِالْحِنْطَةِ كَمَا يَتَبَايَعُ غَيْرُهُمْ بِالْفُلُوسِ.
(وَأَمَّا) الْفُلُوسُ فَقَدْ ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْكَبِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهَا تَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُ، فَكَانَتْ أَثْمَانًا كَالدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَتَعَيَّنُ، فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ، وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ.
(وَمِنْهَا)