للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَكُنْ جِنَايَةً، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنَّا نُهِينَا عَلَى التَّعْرِيضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ مِنْ الشُّرْبِ، وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ.

وَمِنْهَا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ فِي حَدِّ الشُّرْبِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلُّقٌ بِهِ، حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ شُرِبَ نُظِرَ فِيهِ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِيَّةِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُو عَنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ.

(فَأَمَّا) الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ تُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِجَوَازِ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِهَا وَلَمْ يَشْرَبْهَا، أَوْ شَرِبَهَا عَنْ إكْرَاهٍ أَوْ مَخْمَصَةٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَيَّأَ خَمْرًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا قُلْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الْأَشْرِبَةُ الَّتِي تُتَّخَذُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا؛ لِأَنَّ شُرْبَهَا حَلَالٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكِنْ هِيَ حُرْمَةُ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ شُرْبُهَا جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ وَلَا بِالسُّكْرِ مِنْهَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا أَصْلًا فَلَا عِبْرَةَ بِنَفْسِ السُّكْرِ كَشُرْبِ الْبَنْجِ وَنَحْوِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي سَبَب وُجُوب حَدِّ الْقَذْفِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا، وَفِيهَا إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ فَيَجِبُ الْحَدُّ دَفْعًا لِلْعَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ وبعضها يرجع إلَى القاذف]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ.

أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهَا - الْعَقْلُ، وَالثَّانِي - الْبُلُوغُ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْقَذْفِ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَالثَّالِثُ - عَدَمُ إثْبَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَإِنْ أَتَى بِهِمْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] عَلَّقَ وُجُوبَ إقَامَةِ الْحَدِّ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، بَلْ عِنْدَ الْقَذْفِ وَالْخُصُومَةِ، إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَبَدِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ أَصْلًا، إذْ لَا يُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَإِذَا ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْدِفَاعَ بِالْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَزْجُرُ عَنْ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ.

وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَإِسْلَامُهُ وَعِفَّتُهُ عَنْ فِعْلِ الزِّنَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ؛ فَيُحَدُّ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا، وَالشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ الْقَاذِفِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

[فَصْلٌ فِي الشَّرَائِط الَّتِي ترجع إلَى الْمَقْذُوف]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا - أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً وَشَرَائِطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ خَمْسَةٌ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالرَّقِيقِ وَالْكَافِرِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ لَهُ عَنْ الزِّنَا.

أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ؛ فَلِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَكَانَ قَذْفُهُمَا بِالزِّنَا كَذِبًا مَحْضًا فَيُوجِبُ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ.

وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ شَرَطَ الْإِحْصَانَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ، وَهِيَ قَوْلُهُ ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النور: ٤] وَالْمُرَادُ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا، فَدَلَّ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ الْجَلْدَ؛ لَأَوْجَبْنَا ثَمَانِينَ، وَهُوَ لَوْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الزِّنَا لَا يُجْلَدُ إلَّا خَمْسِينَ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا؛ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النور: ٢٣] وَالْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ، وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ عَنْ الزِّنَا، وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعْلُومَةٌ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِفَّةَ عَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>