للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَجْهُ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ لَا تُمْلَكُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَكَانَ اعْتِرَاضُ الْعُذْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ حَدَثَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ يُوجِبُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ، وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى الْقَضَاءِ وَالرِّضَا، كَذَا هَذَا، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِيهِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْعُذْرُ ظَاهِرًا لَا حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا كَالدَّيْنِ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ لِيَظْهَرَ الْعُذْرُ فِيهِ وَيَزُولَ الِاشْتِبَاهُ، وَهَذَا حَسَنٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُسْتَأْجَرَ ثُمَّ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ.

[فَصْلٌ فِي صِفَةُ الْإِجَارَةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا صِفَةُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ إذَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً عَرِيَّةً عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ وَالرُّؤْيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، فَلَا تُفْسَخُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَقَالَ شُرَيْحٌ: إنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ وَتُفْسَخُ بِلَا عُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ فَأَشْبَهَتْ الْإِعَارَةَ، وَلَنَا أَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ وَقَالَ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: ١] وَالْفَسْخُ لَيْسَ مِنْ الْإِيفَاءِ بِالْعَقْدِ وَقَالَ عُمَرُ: " الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ " جَعَلَ الْبَيْعَ نَوْعَيْنِ: نَوْعًا لَا خِيَارَ فِيهِ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارٌ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعٌ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ نَوْعَيْنِ، نَوْعًا لَيْسَ فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ، وَنَوْعًا فِيهِ خِيَارُ الْفَسْخِ؛ وَلِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ عُقِدَتْ مُطْلَقَةً فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ تَحَمُّلِ ضَرَرٍ كَالْبَيْعِ.

[فَصْلٌ فِي حُكْم الْإِجَارَة]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا حُكْمُ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ لَا تَخْلُو: إمَّا إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ فَاسِدَةً وَإِمَّا إنْ كَانَتْ بَاطِلَةً.

أَمَّا الصَّحِيحَةُ: فَلَهَا أَحْكَامٌ، بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ، وَفِي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ إذْ هِيَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ، وَالْبَيْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ.

وَأَمَّا وَقْتُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ عُقِدَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ تَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ، وَإِمَّا أَنْ شُرِطَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ أَوْ تَأْجِيلُهَا.

فَإِنْ عُقِدَ مُطْلَقًا؛ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُؤَاجِرِ فِي الْأُجْرَةِ وَقْتَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمُ الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَعِنْدَنَا: يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ الْمُدَّةُ مَوْجُودَةً تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا فِي الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ تُمْلَكُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ مُطْلَقَةً، وَالْمُعَاوَضَةُ الْمُطْلَقَةُ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ عَقِيبَ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ، إلَّا أَنَّ الْمِلْكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ تَثْبُتُ فِيهِ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً، فَتُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ يُجْعَلُ الْمَعْدُومُ حَقِيقَةً مَوْجُودًا تَقْدِيرًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَلَنَا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْمُطْلَقَةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِيهَا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَثْبُتُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ، إذْ لَوْ ثَبَتَ لَا يَكُونُ مُعَاوَضَةً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعُقُودِ الْمُطْلَقَةِ مَطْلُوبُ الْعَاقِدَيْنِ، وَلَا مُسَاوَاةَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَالْمِلْكُ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَلَا تَثْبُتُ فِي الْأُجْرَةِ فِي الْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُعَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ تَثْبُتُ؟ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ: إنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مِثْلُ اسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ سَنَةً أَوْ عَشْرَ سِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ هُنَا فَقَالَ: تَجِبُ يَوْمًا فَيَوْمًا وَفِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَسَافَةِ مِثْلَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا كَانَ قَوْلُهُ الْأَوَّلَ: إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ حَتَّى يَعُودَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يُسَلِّمُ حَالًا فَحَالًا، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُسَلِّمُ أُجْرَةَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنَافِعَ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَسَافَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَعْقُودٌ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، فَمَا لَمْ يَسْتَوْفِهَا كُلَّهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ بَدَلِهَا، كَمَنْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا يَخِيطُ ثَوْبًا فَخَاطَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، وَكَذَا الْقَصَّارُ، وَالصَّبَّاغُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - أَنَّهُ مِلْكُ الْبَدَلِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ، وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَيَمْلِكُهَا شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا، فَكَذَا مَا يُقَابِلُهَا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْأُجْرَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>