للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُطَهِّرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْغُسْلُ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ حُلُولِ النَّجَاسَةِ، وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ الْكَرَامَةُ فِي امْتِنَاعِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ وَحُكْمِهَا، وَقَوْلُ الْعَامَّةِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ: إثْبَاتُ النَّجَاسَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ النَّجَاسَةِ، وَالْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا لَهُ أَثَرٌ فِي التَّطْهِيرِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا فِي الْجُمْلَةِ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ مَنْعِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَصْلًا مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ.

[فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَعْضِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ، وَكَذَا الْوَاجِبُ هُوَ الْغُسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالتَّكْرَارُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى لَوْ اكْتَفَى بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ غَمْسَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَاءٍ جَارٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ - كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ - فَقَدْ حَصَلَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ وَجَبَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُتَشَرِّبَةِ فِيهِ كَرَامَةً لَهُ - عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعَامَّةُ - فَالْحُكْمُ بِالزَّوَالِ بِالْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً أَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَلَوْ أَصَابَهُ الْمَطَرُ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلُ الْغُسْلِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلَوْ غَرِقَ فِي الْمَاءِ فَأُخْرِجَ إنْ كَانَ الْمُخْرِجُ حَرَّكَهُ كَمَا يُحَرَّكُ الشَّيْءُ فِي الْمَاءِ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ سَقَطَ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْمَيِّتِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْغُسْلِ فَنَقُولُ: يُجَرَّدُ الْمَيِّتُ إذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُجَرَّدُ بَلْ يُغَسَّلُ وَعَلَيْهِ ثَوْبُهُ اسْتِدْلَالًا بِغُسْلِ النَّبِيِّ حَيْثُ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَمَعْنَى التَّطْهِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ وَعَلَيْهِ الثَّوْبُ لِتَنَجُّسِ الثَّوْبِ بِالْغُسَالَاتِ الَّتِي تَنَجَّسَتْ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَتَعَذُّرُ عَصْرِهِ أَوْ حُصُولِهِ بِالتَّجْرِيدِ أَبْلَغُ فَكَانَ أَوْلَى.

وَأَمَّا غُسْلُ النَّبِيِّ فِي قَمِيصِهِ فَقَدْ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا أَنْ يَنْزِعُوا قَمِيصَهُ قَيَّضَ اللَّهُ السِّنَةَ عَلَيْهِمْ فَمَا فِيهِمْ أَحَدٌ إلَّا ضُرِبَ ذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ، حَتَّى نُودُوا مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا تُجَرِّدُوا نَبِيَّكُمْ.

وَرُوِيَ غَسِّلُوا نَبِيَّكُمْ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ، وَلَا شِرْكَةَ لَنَا فِي خَصَائِصِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّجْرِيدِ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ حِينَ تَوَلَّى غُسْلَهُ: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا.

وَيُوضَعُ عَلَى التَّخْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْغُسْلُ إلَّا بِالْوَضْعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غُسِّلَ عَلَى الْأَرْضِ لَتَلَطَّخَ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ أَنَّهُ يُوضَعُ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا أَوْ عَرْضًا، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ.

، وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ بِخِرْقَةٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ النَّبِيُّ : «لَا تَنْظُرُوا إلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْأَجْنَبِيِّ غُسْلُ الْأَجْنَبِيَّةِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا وَحُرْمَةُ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِرَامِ.

وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ سَابِغٍ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَيَاتِهِ إذَا أَرَادَ الِاغْتِسَالَ وَالصَّحِيحُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ، ثُمَّ الْخِرْقَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ سَاتِرَةً مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ وَبِهِ أُمِرَ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ: وَتُطْرَحُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيّ نَصًّا فِي نَوَادِرِهِ، ثُمَّ تُغَسَّلُ عَوْرَتُهُ تَحْتَ الْخِرْقَةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَذَا ذَكَرَ الْبَلْخِيّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَسِّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ فَوْقَ حُرْمَةِ النَّظَرِ، فَتَحْرِيمُ النَّظَرِ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَلَمْ يُذْكَرْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَنْجَى أَمْ لَا؟ وَذُكِرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَنْجَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُسْتَنْجَى هُمَا يَقُولَانِ قَلَّمَا يَخْلُو مَوْضِعُ الِاسْتِنْجَاءِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إزَالَتِهَا، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولَانِ: إنَّ الْمُسْكَةَ تَسْتَرْخِي بِالْمَوْتِ فَلَوْ اسْتَنْجَى رُبَّمَا يَزْدَادُ الِاسْتِرْخَاءُ فَتَخْرُجُ زِيَادَةُ نَجَاسَةٍ، فَكَانَ السَّبِيلُ فِيهِ هُوَ التَّرْكُ، وَالِاكْتِفَاءُ بِوُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَذْكُرْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَجَعَ وَعَرَفَ أَيْضًا رُجُوعَ أَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

ثُمَّ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» ؛ وَلِأَنَّ هَذَا سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَكَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>