للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ الطَّلَاقِ]

فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّلَاقِ مِنْ الرَّجْعِيِّ، وَالْبَائِنِ، وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ، وَبَعْضُهَا مِنْ التَّوَابِعِ، أَمَّا الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لَهُ هُوَ نُقْصَانُ الْعَدَدِ، فَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ، وَحِلُّ الْوَطْءِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ أَصْلِيٍّ لَهُ لَازِمٍ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا بَلْ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَانَتْ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ مِنْ أَحْكَامِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ.

وَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمِلْكُ يَزُولُ فِي حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ لَا غَيْرُ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَزُولُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ وَطْؤُهَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَالْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ.

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ لِلْحَالِ، فَلَا بُدَّ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ نَاجِزٌ، وَهُوَ زَوَالُ حِلِّ الْوَطْءِ، وَزَوَالُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْحِلِّ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ الزَّوَالِ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا، وَالْخَلْوَةُ، وَيَزُولَ قَسَمُهَا، وَالْأَقْرَاءُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ مَحْسُوبَةٌ مِنْ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةَ رَدًّا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] أَيْ: أَزْوَاجُهُنَّ ﴿أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] ، وَالرَّدُّ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إعَادَةِ الْغَائِبِ فَيَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ.

(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] وقَوْله تَعَالَى ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] أَيْ: أَزْوَاجُهُنَّ وقَوْله تَعَالَى هُنَّ كِنَايَةٌ عَنْ الْمُطَلَّقَاتِ.

سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَا يَكُونُ زَوْجًا إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَدَلَّ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ أَحَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: ٥] ﴿إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون: ٦] وقَوْله تَعَالَى ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] وَقَوْلِهِ ﷿ ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ [الروم: ٢١] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، وَإِيلَاؤُهُ، وَيَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَوَارَثَانِ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَكَذَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا وَلَوْ كَانَ مِلْكُ النِّكَاحِ زَائِلًا مِنْ وَجْهٍ لَكَانَتْ الرَّجْعَةُ إنْ شَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الْحُرَّةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: الطَّلَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَالِ - فَمُسَلَّمٌ لَكِنْ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ قَدْ يَظْهَرُ أَثَرُهُ لِلْحَالِ وَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْهُ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وَكَالتَّصَرُّفِ الْحِسِّيِّ، وَهُوَ الرَّمْيُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ هَذَا الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ، عَلَى أَنَّ لَهُ أَثَرًا نَاجِزًا، وَهُوَ نُقْصَانُ عَدَدِ الطَّلَاقِ، وَنُقْصَانُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.

وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِهَا فَقَدْ قَالَ زُفَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَحِلُّ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَإِنَّمَا لَا تَحِلُّ لَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ بَلْ لِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُعْتَدَّاتِ ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق: ١] نَهَى الرِّجَالَ عَنْ الْإِخْرَاجِ، وَالنِّسَاءَ عَنْ الْخُرُوجِ فَيُسْقِطُ الزَّوْجُ الْعِدَّةَ بِالرَّجْعَةِ؛ لِتَزُولَ الْحُرْمَةُ ثُمَّ يُسَافِرُ.

وَأَمَّا الْخَلْوَةُ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الرَّجْعَةُ لَا يُكْرَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ يُكْرَهُ، لَكِنْ لَا لِزَوَالِ النِّكَاحِ وَارْتِفَاعِ الْحِلِّ بَلْ لِلْإِضْرَارِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ اسْتِيفَاءُ النِّكَاحِ بِالرَّجْعَةِ فَمَتَى خَلَا بِهَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا الْمِسَاسُ عَنْ شَهْوَةٍ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَانِيًا فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَتَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا﴾ [البقرة: ٢٣١] ، وَكَذَلِكَ الْقَسَمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْقَسَمُ لَخَلَا بِهَا فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا لَكَانَ لَهَا الْقَسَمُ وَلَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا، وَإِنَّمَا احْتَسَبْنَا الْأَقْرَاءَ مِنْ الْعِدَّةِ لِانْعِقَادِ الطَّلَاقِ سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَالْحِلِّ لِلْحَالِ عَلَى وَجْهٍ يَتِمُّ عَلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ اسْمِ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْك بِدُونِ الزَّوَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَنَّهُ يُطْلَقُ اسْمُ الرَّدِّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَزُلْ الْمِلْكُ عَنْ الْبَائِعِ وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي؛ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الزَّوَالِ بِدُونِ الزَّوَالِ، وَيَكُونُ الرَّدُّ فَسْخًا لِلسَّبَبِ، وَمَنْعًا لَهُ عَنْ الْعَمَلِ فِي إثْبَاتِ الزَّوَالِ.

كَذَا هَهُنَا.

وَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَتَشَوَّفَ، وَتَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ لَعَلَّ زَوْجَهَا يُرَاجِعُهَا، وَعَلَى هَذَا يُبْنَى حَقُّ الرَّجْعَةِ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِلزَّوْجِ بِالْإِجْمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِقِيَامِهِ فِيمَا وَرَاءَ حِلِّ الْوَطْءِ.

[الرَّجْعَةِ]

[بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ]

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الرَّجْعَةِ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>