بِالصِّدْقِ، وَحَالُ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَرَّجُ عَنْ الْكَذِبِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهُ ﵎: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: ١٣٥] .
وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَيْسَ إلَّا الْإِقْرَارُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْمُكْرِهِ حِينَ مَا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ حَتَّى بَعَثَ مَنْ أَخَذَهُ وَرَدَّهُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّى سَبِيلَهُ حَتَّى تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ، فَقَدْ زَالَ الْإِكْرَاهُ عَنْهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ فَقَدْ أَقَرَّ طَائِعًا فَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ بَعْدُ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ فَهُوَ عَلَى الْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَتَلَهُ حِينَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يُدْرَأْ عَنْهُ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهَا يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ كَيْفَ مَا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ شَرْعًا صَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ لِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةُ الصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ، لِوُجُودِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَبَدَأَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ فَإِقْرَارُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ فَيَجِبُ، وَمِثَالُ هَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي مَنْزِلِهِ فَخَافَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ ذَاعِرٌ دَخَلَ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَبَادَرَهُ وَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵄ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ أَيْضًا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاه]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - الْعُدُولُ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إلَى غَيْرِهِ لَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ أَوْ بِالْفِعْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَمَّا حُكْمُ الْعُدُولِ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْعَقْدِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ.
(وَأَمَّا) الْعُدُولُ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَنَقُولُ: إذَا عَدَلَ الْمُكْرَهُ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِالْفِعْلِ جَازَ مَا فَعَلَ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا عَدَلَ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعِ جَارِيَتِهِ فَوَهَبَهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لِتَغَايُرِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طُولِبَ بِمَالٍ وَذَلِكَ الْمَالُ أَصْلُهُ بَاطِلٌ وَأُكْرِهَ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَبَاعَ جَارِيَتَهُ جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْعِ الْجَارِيَةِ طَائِعٌ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ صِنْفٍ آخَرَ غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ اسْتِحْسَانًا جَائِزٌ قِيَاسًا، فَقَدْ اعْتَبَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَاعْتَبَرَهَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي الْإِنْشَاءِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا جُعِلَا جِنْسًا فِي مَوْضِعِ الْإِنْشَاءِ بَلْ مُخَالَفَةُ الْحَقِيقَةِ لِمَعْنًى هُوَ مُنْعَدِمٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَهُوَ أَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ هُوَ الرِّضَا طَبْعًا.
وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَمَا يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَعْدَمُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِمِائَةِ دِينَارٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ، لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الثَّمَنِيَّةَ فَكَانَ انْعِدَامُ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى انْعِدَامِ الرِّضَا بِالْبَيْعِ بِالْآخَرِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا إكْرَاهًا عَلَى الْبَيْعِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ آخَرَ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَقْصُودُ مُخْتَلَفٌ فَلَمْ يَكُنْ كَرَاهَةُ الْبَيْعِ بِأَحَدِهِمَا كَرَاهَةَ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِ الْمُكْرَهِ لِانْعِدَامِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِي اخْتِيَارِهِ بِدَلَالَةِ الْإِكْرَاهِ فَيَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ، فَكَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute