للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا زُفَرُ فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْيَمِينِ لَا لِلْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هِيَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ وَقَدْ تَعَدَّدَتْ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ بِتَعَدُّدِ الْحُكْمِ.

وَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُدَّةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيْمَانِ وُجِدَتْ فِي زَمَانٍ فَكَانَتْ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرَ مُدَّةِ الْأُخْرَى فَصَارَ كَمَا لَوْ آلَى مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثِ مَجَالِسَ.

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَدَ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ حُكْمًا لِتَعَذُّرِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَارَتْ مُدَّةُ الْأَيْمَانِ كُلُّهَا مُدَّةً وَاحِدَةً حُكْمًا، وَالثَّابِتُ حُكْمًا مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ حَقِيقَةً.

وَلَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ وَإِذَا جَاءَ بَعْدُ غَدٍ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ؛ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا، إذَا جَاءَ غَدٌ يَصِيرُ مُولِيًا، وَإِذَا جَاءَ بَعْدُ غَدٍ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ، وَكَذَلِكَ إذَا آلَى مِنْهَا فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ آلَى مِنْهَا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَمَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الْحَالِ، وَالْآخَرُ فِي الْغَدِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَالْبِرِّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْمُدَدَ قَدْ تَعَدَّدَتْ حَقِيقَةً، وَحُكْمًا لِاخْتِلَافِ ابْتِدَاءِ كُلِّ مُدَّةٍ وَانْتِهَائِهَا، وَإِمْكَانِ ضَبْطِ الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ.

وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ كُلَّمَا دَخَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ يَصِيرُ مُولِيًا إيلَاءَيْنِ فِي حَقِّ الْبِرِّ، وَإِيلَاءً وَاحِدًا فِي حَقِّ الْحِنْثِ فَإِذَا دَخَلَ الدَّارَ دَخْلَتَيْنِ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الدَّخْلَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِي عِنْدَ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الدَّخْلَةِ الْأُولَى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ، وَإِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الدَّخْلَةِ الثَّانِيَةِ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ أُخْرَى.

وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ الدَّخْلَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ وَاتِّحَادِ الْيَمِينِ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ لَا يَتَكَرَّرُ انْعِقَادُهَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، وَالْيَمِينُ بِمَا هُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ إذَا عُلِّقَتْ بِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ تَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ.

وَقَوْلُهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ - يَمِينٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْحِنْثِ، وَيَمِينٌ بِالطَّلَاقِ فِي حَقِّ الْبِرِّ، وَدَلِيلُ هَذَا الْأَصْلِ، وَبَيَانُ فُرُوعِهِ يُعْرَفُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: كُلَّمَا دَخَلْتُ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ أَوْ قَالَ: كُلَّمَا كَلَّمْتُ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، فَدَخَلَ إحْدَاهُمَا أَوْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا صَارَ مُولِيًا، وَإِذَا دَخَلَ مَرَّةً أُخْرَى أَوْ كَلَّمَهُ أُخْرَى صَارَ مُولِيًا إيلَاءً آخَرَ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ، وَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فَمَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَبْطُلُ بِهِ أَصْلًا فِي حَقِّ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا، وَهُوَ الْبِرُّ، وَالْحِنْثُ، وَنَوْعٌ يَبْطُلُ بِهِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ حُكْمُ الْبِرِّ، وَيَبْقَى فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَهُوَ حُكْمُ الْحِنْثِ، أَمَّا الَّذِي يَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا فَشَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فِي الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهِ، وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ حِنْثَ الْيَمِينِ نَقَضَهَا، وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى مَعَ وُجُودِ مَا يَنْقُضُهُ وَأَمَّا مَا يَبْطُلُ بِهِ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ دُونَ الْحِنْثِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْفَيْءُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا فَيَبْطُلُ بِهِ الْإِيلَاءُ فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حَتَّى لَا تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ مُضِيِّهَا إذْ هُوَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ، وَأَنَّهَا شَرْطٌ بِالنَّصِّ لَكِنَّهُ يَبْقَى فِي حَقِّ حُكْمِ الْحِنْثِ حَتَّى لَوْ فَاءَ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ فِي الْمُدَّةِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ بَعْدَ الْمُدَّةِ فَجَامَعَهَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ مُعَلَّقٌ بِالْحِنْثِ.

وَالْحِنْثُ هُوَ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ، فَلَا يَحْصُلُ الْحِنْثُ بِدُونِهِ.

وَالثَّانِي الطَّلْقَاتُ الثَّلَاثُ حَتَّى لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِالْإِيلَاءِ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَقِيبَ الْإِيلَاءِ فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَبْطُلُ بِهَا الْإِيلَاءُ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ بِالْإِيلَاءِ أَبَدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ طَلَاقِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ لِلْحَالِ يُبْطِلُ الْيَمِينَ، وَعِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا يُبْطِلُهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَبَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ عَادَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِمَا بَقِيَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي يَهْدِمُ الطَّلْقَةَ، وَالطَّلْقَتَيْنِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَهُ لَا يَهْدِمُ.

وَالْمَسْأَلَةُ قَدْ مَرَّتْ وَلَا يَبْطُلُ بِالْإِبَانَةِ حَتَّى لَوْ آلَى مِنْهَا ثُمَّ أَبَانَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>