للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاَللَّهُ ﷾ الْمُوَفِّقُ.

[فَصْلٌ فِي أَحْكَام كُلّ نَوْع مِنْ أَنْوَاع الْجِنَايَة فِيمَا دُون النَّفْس]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مُخْتَلِفَةُ الْأَحْكَامِ (مِنْهَا) : مَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ (وَمِنْهَا) مَا يَجِبُ فِيهِ أَرْشٌ غَيْرُ مُقَدَّرٍ (أَمَّا) الَّذِي فِيهِ الْقِصَاصُ فَهُوَ الَّذِي اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي مَوْضِعَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصُ (وَالثَّانِي) : فِي بَيَانِ وَقْتِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ: شَرَائِطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَنْوَاعٌ: (بَعْضُهَا) : يَعُمُّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ مَا دُونَ النَّفْسِ.

(أَمَّا) الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ: فَمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ كَوْنِ الْجَانِي عَاقِلًا بَالِغًا مُتَعَمِّدًا مُخْتَارًا، وَكَوْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعْصُومًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جُزْءَ الْجَانِي وَلَا مِلْكَهُ.

وَكَوْنِ الْجِنَايَةِ حَاصِلَةً عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ (وَأَمَّا) الشَّرَائِطُ الَّتِي تَخُصُّ الْجِنَايَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْفِعْلَيْنِ وَبَيْنَ الْأَرْشَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَانْعِدَامُهَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لَلنَّصُّ وَالْمَعْقُولُ (أَمَّا) النَّصُّ فَقَوْلُهُ ﵎ ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ [المائدة: ٤٥] إلَى قَوْله تَعَالَى - جَلَّ شَأْنُهُ - ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [المائدة: ٤٥] ، فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﵎ بَيَانُ حُكْمِ مَا دُونَ النَّفْسِ، لَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، فَيَكُونُ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا، وَشَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا (فَالْجَوَابُ) : أَنَّ مِنْ الْقُرَّاءِ الْمَعْرُوفِينَ مَنْ ابْتَدَأَ الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ [المائدة: ٤٥] بِالرَّفْعِ إلَى قَوْلِهِ ﵎: ﴿فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ﴾ [المائدة: ٤٥] عَلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ، فَكَانَ هَذَا شَرِيعَتَنَا، لَا شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ إخْبَارًا عَنْ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ بِكِتَابِنَا، وَلَا بِسُنَّةِ رَسُولِنَا ﷺ فَيَصِيرُ شَرِيعَةً لِنَبِيِّنَا ﷺ مُبْتَدَأَةً فَيَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ رَسُولِنَا ﷺ لَا عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرُّسُلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ نَصًّا لَكِنَّ الْإِيجَابَ فِي الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالسِّنِّ إيجَابٌ فِي الْيَدِ وَالرِّجْلِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِالْمَذْكُورِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالشَّمِّ وَالسِّنِّ إلَّا صَاحِبَهُ (وَيَجُوزُ) أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْيَدِ وَالرِّجْلِ غَيْرُ صَاحِبِهِمَا، فَكَانَ الْإِيجَابُ فِي الْعُضْوِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْخُصُوصِ إيجَابًا فِيمَا هُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ فِي حَقِّهِ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ ذِكْرًا لِلْيَدِ وَالرِّجْلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لَهُ، كَمَا فِي التَّأَفُّفِ مَعَ الضَّرْبِ فِي الشَّتْمِ عَلَى أَنَّ فِي كِتَابِنَا حُكْمُ مَا دُونَ النَّفْسِ قَالَ اللَّهُ ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] وَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَزَّ شَأْنُهُ (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) وَأَحَقُّ مَا يُعْمَلُ فِيهِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا دُونَ النَّفْسِ (وَقَالَ) ﵎ ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا﴾ [غافر: ٤٠] وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ (وَأَمَّا) الْمَعْقُولُ فَهُوَ: أَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ حُكْمُ الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْأَمْوَالِ.

أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى فِي الْحِلِّ وَالْحُرَمِ كَمَا يُسْتَوْفَى الْمَالُ.

وَكَذَا الْوَصِيُّ يَلِي اسْتِيفَاءَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِلصَّغِيرِ، كَمَا يَلِي اسْتِيفَاءَ مَالِهِ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ كَمَا تُعْتَبَرُ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ (وَمِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ مُمْكِنَ الِاسْتِيفَاءِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ بِدُونِ إمْكَانِ اسْتِيفَائِهِ مُمْتَنَعٌ، فَيُمْتَنَعُ وُجُوبُ الِاسْتِيفَاءِ ضَرُورَةً، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ مَسَائِلُ (فَنَقُولُ) وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ -: لَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ إلَّا بِمِثْلِهِ فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إلَّا بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسهَا فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا؛ إذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ.

(وَكَذَا) الرِّجْلُ وَالْأُصْبُعُ وَالْعَيْنُ وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا لِمَا قُلْنَا (وَكَذَا) الْإِبْهَامُ لَا تُؤْخَذُ إلَّا بِالْإِبْهَامِ، وَلَا السَّبَّابَةُ إلَّا بِالسَّبَّابَةِ، وَلَا الْوُسْطَى إلَّا بِالْوُسْطَى، وَلَا الْبِنْصِرِ إلَّا بِالْبِنْصِرِ، وَلَا الْخِنْصَرُ إلَّا بِالْخِنْصَرِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَدُ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى؛ لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا عَلَى الْيَسَارِ؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ يَمِينًا.

وَكَذَلِكَ الرِّجْلُ.

وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ مِنْهُمَا إلَّا بِالْيَمِينِ، وَلَا الْيُسْرَى إلَّا بِالْيُسْرَى.

وَكَذَلِكَ الْأَعْيُنُ؛ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ الْأَسْنَانُ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إلَّا بِالثَّنِيَّةِ، وَلَا النَّابُ إلَّا بِالنَّابِ، وَلَا الضِّرْسُ إلَّا بِالضِّرْسِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ وَبَعْضَهَا طَوَاحِنُ وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَلْحَقهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ.

وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى مِنْهَا بِالْأَسْفَلِ، وَلَا الْأَسْفَلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>