للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَبُو حَنِيفَةَ السَّكْرَانُ الَّذِي يُحَدُّ هُوَ الَّذِي لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَلَا يَعْقِلُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّجُلَ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمُحَمَّدٌ السَّكْرَانُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى كَلَامِهِ الْهَذَيَانُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] فَيُسْتَقْرَأُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى قِرَاءَتِهَا فَهُوَ سَكْرَانٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ وَسَيِّدَنَا عُمَرَ وَسَيِّدَنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدَنَا عَلِيًّا وَسَيِّدَنَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَأَكَلُوا وَسَقَاهُمْ خَمْرًا وَكَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَحَضَرَتْهُمْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمَّهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١] عَلَى طَرْحِ ﴿لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ٢] فَنَزَلَ قَوْلُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: ٤٣] .

وَهَذَا الِامْتِحَانُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مِنْ السُّكَارَى مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ أَصْلًا، وَمَنْ تَعَلَّمَ فَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا فِي حَالَةِ الصَّحْوِ خُصُوصًا مَنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِأَمْرِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ فِي حَالَةِ السُّكْرِ؟ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا شَرِبَ حَتَّى ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي مَشْيِهِ وَأَطْرَافِهِ وَحَرَكَاتِهِ، فَهُوَ سَكْرَانُ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَظْهَرُ فِيهِ وَإِنْ بَلَغَ بِهِ السُّكْرُ غَايَتَهُ.

(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: شَهَادَةُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ السَّكْرَانَ فِي مُتَعَارَفِ النَّاسِ اسْمٌ لِمَنْ هَذَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ بِقَوْلِهِ: إذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ يُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَقُولُ: أَصْلُ السُّكْرِ يُعْرَفُ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ فِي بَابِ الْحُدُودِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْبَابِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِقَوْلِهِ «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَلَا يُعْرَفُ بُلُوغُ السُّكْرِ غَايَتَهُ إلَّا بِمَا ذُكِرَ، وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ]

وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَقَدْ يُسَمَّى كِتَابَ الْكَرَاهَةِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي بَيَانِ مَعْنَى اسْمِ الْكِتَابِ وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فِيهِ (أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالِاسْتِحْسَانُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ كَوْنُ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةِ الْحَسَنِ وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ فِعْلُ الْمُسْتَحْسَنِ وَهُوَ رُؤْيَةُ الشَّيْءِ حَسَنًا يُقَالُ اسْتَحْسَنْت كَذَا أَيْ رَأَيْته حَسَنًا فَاحْتَمَلَ تَخْصِيصُ هَذَا الْكِتَابِ بِالتَّسْمِيَةِ بِالِاسْتِحْسَانِ لِاخْتِصَاصِ عَامَّةِ مَا أُورِدَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ بِحَسَنٍ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلِكَوْنِهَا عَلَى وَجْهٍ يَسْتَحْسِنُهَا الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ (وَأَمَّا) التَّسْمِيَةُ بِالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَتَسْمِيَةٌ طَابَقَتْ مَعْنَاهَا وَوَافَقَتْ مُقْتَضَاهَا لِاخْتِصَاصِهِ بِبَيَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ وَكَذَا التَّسْمِيَةُ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ بَيَانُ الْمُحَرَّمَاتِ وَكُلُّ مُحَرَّمٍ مَكْرُوهٌ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ ضِدُّ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا قَالَ اللَّهُ ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] وَالشَّرْعُ لَا يُحِبُّ الْحَرَامَ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلَّا أَنَّ مَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَعَادَةُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُسَمِّيه حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمَا تَثْبُتُ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعٍ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُسَمِّيه مَكْرُوهًا وَرُبَّمَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ حَرَامٌ مَكْرُوهٌ إشْعَارًا مِنْهُ أَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ.

(وَأَمَّا) بَيَانُ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُحَلَّلَاتِ الْمَجْمُوعَةِ فِيهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ الْمُحَرَّمَاتُ الْمَجْمُوعَةُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا وَنَوْعٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ (أَمَّا) الَّذِي ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا فَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي مَوَاضِعِهِ فِي الْكُتُبِ فَلَا نُعِيدُهُ وَنَذْكُرُ مَا لَا ذِكْرَ لَهُ فِي الْكُتُبِ وَنَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ الْكِتَابَ وَهُوَ حُرْمَةُ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلرَّجُلِ مِنْ الرَّجُلِ وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ النِّسَاءِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ النِّسَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَنْكُوحَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ الْمَمْلُوكَاتُ وَنَوْعٌ مِنْهُنَّ ذَوَاتُ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>