للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْمُحْكَمِ، فَكَانَ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ أَوْلَى.

وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: يَنْعَزِلُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ هَلْ يَنْعَزِلُ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْعَزِلُ، وَبِهِ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: فَأَصْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِسْقَ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عَنْ الْإِيمَانِ فَيَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ كَمَا هِيَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ تَدُورُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ زَالَتْ بِالْفِسْقِ فَتَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تُخْرِجُ صَاحِبَهَا مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْعَدَالَةُ لَيْسَ بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ؛ الْأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الْقِسْمَةِ]

[أَنْوَاع الْقِسْمَة وَبَيَان شرعية كُلّ نَوْع]

(كِتَابُ الْقِسْمَةِ)

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كُلِّ نَوْعٍ، وَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ صِفَاتِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ، وَفِي بَيَانِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا.

(أَمَّا) الْأَوَّلُ: فَالْقِسْمَةُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا - قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ وَالثَّانِي - قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ مَشْرُوعَةٌ، أَمَّا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ فَقَدْ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

(أَمَّا) السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ الشَّرْعِيَّةُ»

(وَأَمَّا) الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّ النَّاسَ اسْتَعْمَلُوا الْقِسْمَةَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ مُتَوَارَثَةً، وَالْمَعْقُولُ يَقْتَضِيهِ تَوْفِيرًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَصْلَحَتُهُ بِكَمَالِهَا.

[فَصْلٌ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَمَّا فِي اللُّغَةِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ النَّصِيبِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ إفْرَازِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ عَنْ بَعْضٍ، وَمُبَادَلَةِ بَعْضٍ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ مَا مِنْ جُزْأَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَتَجَزَّآنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ غَيْرَ عَيْنٍ، فَكَانَ نِصْفُ الْعَيْنِ مَمْلُوكًا لِهَذَا، وَالنِّصْفُ مَمْلُوكًا لِذَاكَ عَلَى الشُّيُوعِ، فَإِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَالْأَجْزَاءُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَتَجْتَمِعُ بِالْقِسْمَةِ فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْتَمِعَ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ، بَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَبَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهِ عَلَى الشُّيُوعِ.

فَلَوْ لَمْ تَقَعْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ، لَمْ يَكُنْ الْمَقْسُومُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمَقْسُومِ عَلَيْهِ، بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُ مِلْكَ صَاحِبِهِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِطَلَبِهَا مِنْ الْقَاضِي رِضًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نِصْفِ نَصِيبِهِ بِعِوَضٍ - وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ - وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمُبَادَلَةِ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ إفْرَازًا وَتَمْيِيزًا، أَوْ تَعْيِينًا لَهَا فِي الْمِلْكِ وَفِي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لِصَاحِبِهِ مُعَاوَضَةً، وَهِيَ مُبَادَلَةُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ، فَكَانَتْ إفْرَازَ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُعَاوَضَةَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْقِسْمَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا فِي كُلِّ قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ، إلَّا أَنَّهُ أَعْطَى لَهَا حُكْمَ الْإِفْرَازِ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْعِوَضِ مِثْلُ الْمَتْرُوكِ مِنْ الْمُعَوَّضِ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ، حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، فَجُعِلَ إفْرَازًا حُكْمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالْمُعَاوَضَاتُ مِمَّا لَا يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ؟ .

(فَالْجَوَابُ) أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ يُجْرَى فِيهَا الْجَبْرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ - دَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَنْفِي الْمُعَاوَضَةَ فَجَازَ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَضَةً مَعَ مَا أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَجْرِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ، كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ، بَلْ هِيَ إفْرَازٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُعَاوَضَةٌ مِنْ وَجْهٍ، فَجَازَ أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا الْجَبْرُ؛ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، أَنَّهَا لَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُجَازَفَةً؛ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>