يُوجَدْ فَكَانَ إحْرَامُهُ بَاقِيًا فَإِذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَقَدْ أَزَالَ التَّفَثَ فِي حَالِ قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا حَلْقَ عَلَى الْمَرْأَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِنَّ تَقْصِيرٌ» ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ ﵂ أَنَّ «النَّبِيَّ ﷺ نَهَى الْمَرْأَةَ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسَهَا» ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِي النِّسَاءِ مُثْلَةٌ، وَلِهَذَا لَمْ تَفْعَلْهُ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَكِنَّهَا تُقَصِّرُ فَتَأْخُذُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهَا قَدْرَ أُنْمُلَةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ تُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ؟ ، فَقَالَ: مِثْلُ هَذِهِ، وَأَشَارَ إلَى أُنْمُلَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ إذَا حَلَقَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا حَلَقَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَلْقُ الرَّأْسِ بِالنَّصِّ الَّذِي تَلَوْنَا، وَلِأَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى، وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ عَلَى مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ «إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى، وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ» ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِالنَّصَارَى فَيُكْرَهُ.
[فَصْلٌ مِقْدَارُ وَاجِبِ الْحَلْق والتقصير]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ، فَأَمَّا الْحَلْقُ فَالْأَفْضَلُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِقَوْلِهِ ﷿ ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ﴾ [الفتح: ٢٧] ، وَالرَّأْسُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ.
وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ» فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ رَمَى ثُمَّ ذَبَحَ ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ فَأَشَارَ إلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَحَلَقَهُ، وَفَرَّقَ شَعْرَهُ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْأَيْسَرِ فَحَلَقَهُ وَأَعْطَاهُ لِأُمِّ سُلَيْمٍ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ ﷺ «أَوَّلُ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا الرَّمْيُ ثُمَّ الذَّبْحُ» ثُمَّ الْحَلْقُ وَالْحَلْقُ الْمُطْلَقُ يَقَعُ عَلَى حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَلَوْ حَلَقَ بَعْضَ الرَّأْسِ، فَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ حَلَقَ رُبْعَ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ، وَيُكْرَهُ.
أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّ رُبْعَ الرَّأْسِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ فِي الْقُرَبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالرَّأْسِ كَمَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ.
وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الْمَسْنُونَ هُوَ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَتَرْكُ الْمَسْنُونِ مَكْرُوهٌ، وَأَمَّا التَّقْصِيرُ فَالتَّقْدِيرُ فِيهِ بِالْأُنْمُلَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ ﵁ لَكِنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: يَجِبُ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى قَدْرِ الْأُنْمُلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ أَطْرَافِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَأَطْرَافُ جَمِيعِ الشَّعْرِ لَا يَتَسَاوَى طُولُهَا عَادَةً بَلْ تَتَفَاوَتُ فَلَوْ قَصَّرَ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنْ جَمِيعِ الشَّعْرِ بَلْ مِنْ بَعْضِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ بِاسْتِيفَاءِ قَدْرِ الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ.
[فَصْلٌ بَيَانُ زَمَانِ وَمَكَانِ الْحَلْق والتقصير]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ زَمَانِهِ، وَمَكَانِهِ فَزَمَانُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَمَكَانُهُ الْحَرَمُ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ، وَلَا بِالْمَكَانِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ لَا بِالزَّمَانِ، وَقَالَ زُفَرُ يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ لَا بِالْمَكَانِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ حَلَقَ خَارِجَ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا دَمَ عَلَيْهِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَجِبُ فِي الزَّمَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ فِي الزَّمَانِ، وَلَا يَجِبُ فِي الْمَكَانِ احْتَجَّ زُفَرُ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ» ، وَحُدَيْبِيَةُ مِنْ الْحِلِّ فَلَوْ اخْتَصَّ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ لَمَا جَازَ فِي غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَلَمَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ لَا يَخْتَصُّ جَوَازُهُ بِالْمَكَانِ، وَهُوَ الْحَرَمُ، وَهَذَا أَيْضًا حُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَكَانِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فِي أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ ﷺ: اذْبَحْ، وَلَا حَرَجَ، وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» فَمَا سُئِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ تَقْدِيمِ نُسُكٍ، وَتَأْخِيرِهِ إلَّا قَالَ: افْعَلْ، وَلَا حَرَجَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ «أَنَّهُ ﷺ حَلَقَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ» فَصَارَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِمُطْلَقِ الْكِتَابِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ التَّرْكِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْجَابِرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا مِنْ الْحِلِّ، وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ حَلَقُوا فِي الْحَرَمِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ مَا أَنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ» فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ فِي الْحِلِّ، وَلَهُ سَبِيلُ الْحَلْقِ فِي الْحَرَمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّهُ لَا حَرَجَ فِي التَّأْخِيرِ عَنْ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَهُوَ الْإِثْمُ لَكِنَّ انْتِفَاءَ الْإِثْمِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْكَفَّارَةِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْحَلْقِ عِنْدَ الْأَذَى وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَلَوْ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ عَادَ إلَى الْحَرَمِ