مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ، وَفِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهَا، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الرُّكْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالرَّجْعَةُ مَشْرُوعَةٌ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٨] أَيْ: رَجْعَتِهِنَّ وقَوْله تَعَالَى ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١] وقَوْله تَعَالَى ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] ، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ﵄ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعُمَرَ ﵁ مُرْ ابْنَك يُرَاجِعْهَا» الْحَدِيثَ، وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا طَلَّقَ حَفْصَةَ ﵂ جَاءَهُ جِبْرِيلُ ﷺ فَقَالَ لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا» ، وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ ﷺ طَلَّقَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ ﵂ ثُمَّ رَاجَعَهَا، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ؛ فَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﷻ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: ١] فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ فَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ لِمَا عَسَى لَا تُوَافِقُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا.
[بَيَانُ مَاهِيَّةِ الرَّجْعَةِ]
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الرَّجْعَةِ فَالرَّجْعَةُ عِنْدَنَا: اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ الْقَائِمِ، وَمَنْعُهُ مِنْ الزَّوَالِ، وَفَسْخُ السَّبَبِ الْمُنْعَقِدِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: هِيَ اسْتِدَامَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ بِنَاءً، عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، زَائِلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ عِنْدَنَا قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْشَائِهِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ، وَالرَّجْعَةُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ عِنْدَنَا، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الشَّهَادَةُ، وَعِنْدَهُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الشَّهَادَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ إنْ شَاءٌ لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ اسْتِيفَاءٌ فَصَحَّ الْبِنَاءُ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢] فَظَاهِرُ الْأَمْرِ وُجُوبُ الْعَمَلِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الشَّهَادَةِ.
وَلَنَا نُصُوصُ الرَّجْعَةِ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مُطْلَقَةً عَنْ شَرْطِ الْإِشْهَادِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا إذْ لَوْ لَمْ يَشْهَدْ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَلَا تُصَدِّقُهُ الْمَرْأَةُ فِي الرَّجْعَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَنُدِبَ إلَى الْإِشْهَادِ لِهَذَا.
وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - قَالَ: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: ٢] جَمَعَ بَيْنَ الْفُرْقَةِ، وَالرَّجْعَةِ، أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِالْإِشْهَادِ بِقَوْلِهِ ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: ٢] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الْفُرْقَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ.
كَذَا عَلَى الرَّجْعَةِ أَوْ تُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ النُّصُوصِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَكَذَا لَا مَهْرَ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا رِضَا الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ شَرَائِطِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا مِنْ شَرْطِ الْبَقَاءِ، وَكَذَا إعْلَامُهَا بِالرَّجْعَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ جَازَتْ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقُّهُ عَلَى الْخُلُوصِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَالِاسْتِدَامَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إعْلَامُ الْغَيْرِ كَالْإِجَازَةِ فِي الْخِيَارِ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَمُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا بِالرَّجْعَةِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ عِنْدَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ ظَنًّا مِنْهَا أَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ، فَكَانَ تَرْكُ الْإِعْلَامِ فِيهِ تَسَبُّبًا إلَى عَقْدٍ حَرَامٍ عَسَى فَاسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُعْلِمَهَا.
وَلَوْ رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى انْقَضَتْ مُدَّةُ عِدَّتِهَا، وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ بِدُونِ عِلْمِهَا فَتَزَوَّجَهَا الثَّانِي، وَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَصِحَّ،، وَعَلَى هَذَا تُبْنَى الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ جَامَعَهَا أَنَّهَا جَائِزَةٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ وَجْهُ الْبِنَاءِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْقَوْلِ، فَكَذَا إنْشَاؤُهُ مِنْ وَجْهٍ، وَعِنْدَنَا هِيَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا تَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ، وَيُبْنَى أَيْضًا عَلَى حِلِّ الْوَطْءِ، وَحُرْمَتِهِ.
وَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ الْوَطْءَ لَمَّا كَانَ حَلَالًا عِنْدَنَا فَإِذَا وَطِئَهَا فَلَوْ لَمْ يُجْعَلْ الْوَطْءُ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ، وَرُبَّمَا لَا يُرَاجِعُهَا بِالْقَوْلِ بَلْ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فَيَزُولَ الْمِلْكُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ مِنْهُ إلَّا ذَلِكَ فَيَزُولُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكُ كَانَ زَائِلًا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ مِنْ وَجْهٍ، فَيَظْهَرُ أَنَّ الْوَطْءَ كَانَ حَرَامًا، فَجُعِلَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ دَلَالَةَ الرَّجْعَةِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْحَرَامِ