للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

وَالْكِتَابُ الْعَزِيزُ قَدْ يُنْسَخُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُنْسَخُ الْكِتَابَ عِنْدَكُمْ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَهَذَا مِنْ الْآحَادِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَوَاتِرٌ غَيْرَ أَنَّ التَّوَاتُرَ ضَرْبَانِ: تَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْوِيَهُ جَمَاعَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَتَوَاتُرٌ مِنْ حَيْثُ ظُهُورِ الْعَمَلِ بِهِ قَرْنًا فَقَرْنًا مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ مَا رَوَوْهُ عَلَى التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَمَلِ بِهِ أَغْنَاهُمْ عَنْ رِوَايَتِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْعَمَلُ بِهَذَا مَعَ ظُهُورِ الْقَوْلِ أَيْضًا مِنْ الْأَئِمَّةِ بِالْفَتْوَى بِهِ بِلَا تَنَازُعٍ مِنْهُمْ، وَمِثْلُهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ قَطْعًا، فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِهِ كَمَا يَجُوزُ بِالْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ جَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي الرِّوَايَةِ يُكَفَّرُ وَجَاحِدَ الْمُتَوَاتِرِ فِي ظُهُورِ الْعَمَلِ لَا يُكَفَّرُ لِمَعْنَى عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمَوَارِيثِ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَقَوْلُهُ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَيْ: كُلَّ حَقِّهِ فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْمِيرَاثَ الَّذِي أُعْطِيَ لِلْوَارِثِ كُلُّ حَقِّهِ، فَيَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْوَصِيَّةِ، وَتَحَوُّلِ حَقِّهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى الْمِيرَاثِ وَإِذَا تَحَوَّلَ فَلَا يَبْقَى لَهُ حَقٌّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ كَالْقِبْلَةِ لَمَّا تَحَوَّلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَبْقَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قِبْلَةً.

وَكَالدَّيْنِ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ لَا يَبْقَى فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى.

وَكَمَا فِي الْحَوَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْوَصِيَّةُ بَقِيَتْ وَاجِبَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ غَيْرِ الْوَارِثِينَ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالْآيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمَخْرَجِ لَكِنْ خُصَّ مِنْهَا الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ الْوَارِثُونَ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» فَكَانَ الْحَدِيثُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْكِتَابِ لَا نَاسِخًا وَالْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى النَّسْخِ إلَّا أَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ قَالُوا: إنَّ الْوَصِيَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فَرِيضَةً لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِحَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ، أَوْ زَكَاةٌ، أَوْ كَفَّارَةٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ وَاجِبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بَلْ جَائِزَةٌ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ (وَأَمَّا) الْكَلَامُ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَقَدْ قَالُوا: إنْ كَانَ مَالُهُ قَلِيلًا، وَلَهُ وَرَثَةٌ فُقَرَاءُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُوصِيَ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: «إنَّكَ إنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ صِلَةً بِالْأَجَانِبِ، وَالتَّرْكَ يَكُونُ صِلَةً بِالْأَقَارِبِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ فُقَرَاءَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ وَيَتْرُكَ الْمَالَ لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ غُنْيَةً الْوَرَثَةِ تَحْصُلُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَلَا تَحْصُلُ عِنْدَ قِلَّتِهِ.

وَالْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالرُّبْعِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلَأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَمَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا أَيْ: لَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لِوَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّهُ، فَإِذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا لَهُمْ.

وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ، وَسَيِّدِنَا عُمَرَ، وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْخُمُسُ اقْتِصَادٌ، وَالرُّبُعُ جَهْدٌ، وَالثُّلُثُ حَيْفٌ، وَإِنْ كَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، فَالْأَفْضَلُ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ، ثُمَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِلْأَجَانِبِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْقَرِيبِ الْمُعَادِي أَفْضَلُ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الْمُوَالِي؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُعَادِي تَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِخْلَاصِ وَأَبْعَدَ عَنْ الرِّيَاءِ، وَنَظِيرُ قَوْلِهِ لِذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا، فَأَعْتَقَهُ، فَإِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَكَ، وَإِنْ كَفَرَكَ، فَهُوَ شَرٌّ لَهُ وَخَيْرٌ لَكَ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمُعَادِي سَبَبٌ لِزَوَالِ الْعَدَاوَةِ، وَصِيَانَةٌ لِلْقَرَابَةِ عَنْ الْقَطِيعَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى هَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْفَضْلِ، وَالدِّينِ وَالْحَاجَةِ، وَأَحَدُهُمَا مُعَادِي (فَأَمَّا) إذَا كَانَ الْمُوَالِي مِنْهُمَا أَعَفَّهُمَا، وَأَصْلَحَهُمَا وَأَحْوَجَهُمَا، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ تَقَعُ إعَانَةً عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ .

[فَصْلٌ فِي رُكْنُ الْوَصِيَّةِ]

(فَصْلٌ) :

وَأَمَّا رُكْنُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ : هُوَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي، وَالْقَبُولُ مِنْ الْمُوصَى لَهُ فَمَا لَمْ يُوجَدَا جَمِيعًا لَا يَتِمُّ الرُّكْنُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: رُكْنُ الْوَصِيَّةِ الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي، وَعَدَمُ الرَّدِّ مِنْ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ رَدِّهِ، وَهَذَا أَسْهَلُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ.

وَقَالَ زُفَرُ : الرُّكْنُ هُوَ

<<  <  ج: ص:  >  >>