الْإِيجَابُ مِنْ الْمُوصِي فَقَطْ.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مِلْكَ الْمُوصَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمِلْكَيْنِ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ مِلْكُ الْوَارِثِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِهِ.
وَكَذَا مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ (وَلَنَا) : قَوْلُهُ ﵎: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٩] فَظَاهِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ شَيْءٌ بِدُونِ سَعْيِهِ فَلَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ سَعْيِهِ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ إلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرُ الْمِنَّةِ؛ وَلِهَذَا تَوَقَّفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى قَبُولِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُوصَى بِهِ قَدْ يَكُونُ شَيْئًا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُوصَى لَهُ، كَالْعَبْدِ الْأَعْمَى وَالزَّمِنِ، وَالْمُقْعَدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: أَرَيْتَ لَوْ أَوْصَى بِعَبِيدٍ عُمْيَانَ أَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ شَاءَ، أَوْ أَبَى، وَتَلْحَقُهُ نَفَقَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْهُمْ نَفْعٌ فَلَوْ لِزَمَهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ لَلَحِقَهُ الضَّرَرُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ وَإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ إذْ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِ الضَّرَرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْوَارِثِ؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ هُنَاكَ بِإِلْزَامِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ، وَهُوَ اللَّهُ ﵎ فَلَمْ يَقِفْ عَلَى الْقَبُولِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُ بِإِلْزَامِ الشَّرْعِ ابْتِدَاءً.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقْبَلْ، أَوْ يَمُتْ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْقَبُولِ، أَوْ بِدُونِ عَدَمِ الرَّدِّ، وَوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبُولُ مِنْهُ، وَلَا وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الرَّدِّ مَا دَامَ حَيًّا فَلَا يُعْتَقُ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُوصِي، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ صَارَ الْمُوصَى بِهِ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى لَهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ: أَنْ تَبْطُلَ الْوَصِيَّةُ وَيَكُونَ لِوَرَثَتِهِ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا قَبِلُوا، وَإِنْ شَاءُوا رَدُّوا (وَجْهُ) الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَبُولَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْعَقْدِ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ، فَيَبْطُلُ الرُّكْنُ الْآخَرُ كَمَا إذَا أَوْجَبَ الْبَيْعَ، ثُمَّ مَاتَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبُولِ، أَوْ أَوْجَبَ الْهِبَةَ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْإِيجَابُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا (وَجْهُ) الْقِيَاسِ الثَّانِي: أَنَّ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ كَانَ لَهُ الْقَبُولُ، وَالرَّدُّ فَإِذَا مَاتَ تَقُومُ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ أَحَدَ الرُّكْنَيْنِ مِنْ جَانِبِ الْمُوصَى لَهُ هُوَ عَدَمُ الرَّدِّ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَلَى الرَّدِّ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَمَّ الرُّكْنُ.
(وَأَمَّا) عَلَى عِبَارَةِ الْقَبُولِ فَنَقُولُ: إنَّ الْقَبُولَ مِنْ الْمُوصَى لَهُ لَا يُشْتَرَطُ لَعَيْنِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الرَّدِّ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا أَوْصَى لَهُ بِجَارِيَتِهِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّكَاحِ أَنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ، أَوْ يَمُوتُ قَبْلَ الْقَبُولِ، فَإِذَا مَاتَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ، فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُوصَى لَهُ بِالْوَصِيَّةِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ عَلِمَ وَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوَصِيَّةِ، وَهُوَ يَطَؤُهَا بِالنِّكَاحِ حَتَّى وَلَدَتْ أَوْلَادًا، ثُمَّ عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ الْوَصِيَّةَ، فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ فَلَا تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ شَرْطٌ، فَإِنْ قَبِلَ، فَقَدْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبُولِ، وَمَنْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ مَلَكَهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَأَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ إنْ كَانُوا يُخْرَجُونَ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَبُولِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ، وَهُوَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ كَذَا هَهُنَا وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي يُحْكَمُ بِفَسَادِ النِّكَاحِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَوْلَادَ وُلِدُوا عَلَى فِرَاشِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَدَخَلُوا تَحْتَ الْوَصِيَّةِ فَيَمْلِكُهُمْ بِالْقَبُولِ فَيُعْتَقُونَ إذَا كَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ مِلْكًا لِوَرَثَةِ الْمُوصِي، وَالْأَوْلَادُ أَرِقَّاءُ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعَ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ، وَالْحُرِّيَّةِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِرَجُلَيْنِ وَمَاتَ الْمُوصِي فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ كَانَ لِلْآخَرِ حِصَّتُهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الثُّلُثَ إلَيْهِمَا، وَقَدْ صَحَّتْ الْإِضَافَةُ فَانْصَرَفَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا الْوَصِيَّةَ ارْتَدَّ فِي نِصْفِهِ وَبَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ لِصَاحِبِهِ الَّذِي قَبِلَ كَمَنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لِرَجُلَيْنِ فَرَدَّ أَحَدُهُمَا إقْرَارَهُ ارْتَدَّ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً، وَكَانَ لَلْآخَرِ نِصْفُ الْإِقْرَارِ كَذَا هَهُنَا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِالثُّلُثِ لِهَذَا، وَالثُّلُثِ لِهَذَا فَرَدَّ أَحَدُهُمَا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَنَّ كُلَّ الثُّلُثِ لِلَّذِي قَبِلَ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَبِلَ صَاحِبُهُ يُقَسَّمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا لِضَرُورَةِ الْمُزَاحَمَةِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا رَدَّ أَحَدُهُمَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَكَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي عَقْدِ الْوَصِيَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute