: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ ﷺ بِأَصَابِعِ يَدَيْهِ كُلِّهَا» فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ ﷺ: «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ» فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَإِذَا قَامَتْ الْإِشَارَةُ مَعَ تَعَلُّقِ الْعِبَارَةِ بِهَا مَقَامَ الْكَلَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَصَابِعِ عَدَدُ الْمُرْسَلِ مِنْهَا دُونَ الْمَقْبُوضِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَقَبَضَ إبْهَامَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فُهِمَ مِنْهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَقْبُوضُ لَكَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ الْمُرْسَلُ مِنْهَا لَا الْمَقْبُوضُ.
وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تُنْبِئُ عَنْ الْبَيْنُونَةِ أَوْ تَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ مِثْلُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ حَرَامٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَأَنَّهُ مُعَقِّبٌ لِلرَّجْعَةِ، فَلَمَّا قَالَ: بَائِنٌ فَقَدْ أَرَادَ تَغْيِيرَ الْمَشْرُوعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعَرْتُكِ عَارِيَّةً لَا رَدَّ فِيهَا، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ.
وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ الْإِبَانَةَ، وَلَنَا أَنَّهُ وَصَفَ الْمَرْأَةَ بِالْبَيْنُونَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْنُونَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ الْبَيْنُونَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؟ فَكَانَ قَوْلُهُ: بَائِنٌ قَرِينَةً مُبَيِّنَةً لَا مُغَيِّرَةً، ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَا يَقَعُ تَطْلِيقَةٌ بِقَوْلِهِ طَالِقٌ وَالْأُخْرَى بِقَوْلِهِ بَائِنٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: بَائِنٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا مُقْتَضًى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَدْنَى.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً قَوِيَّةً أَوْ شَدِيدَةً؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْقَوِيَّةِ، وَالْقَوِيُّ هُوَ الْبَائِنُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً؛ لِأَنَّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ يَقْتَضِيَانِ الْقُوَّةَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ رَجْعِيٌّ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَائِنٌ.
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالطُّولِ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً طَوِيلَةً (وَلَنَا) أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالطُّولِ صُورَةً وَبِالْقَصْرِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَقَعُ فِي الْأَمَاكِنِ كُلِّهَا فَكَانَ الْقَصْرُ عَلَى بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَصْفًا لَهُ بِالْقَصْرِ، وَالطَّلْقَةُ الْقَصِيرَةُ هِيَ الرَّجْعِيَّةُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَشَدَّ الطَّلَاقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَائِنِ أَشَدُّ مِنْ حُكْمِ الرَّجْعِيِّ فَيَقَعُ بَائِنًا وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ؛ لِأَنَّ أَلِفَ التَّفْضِيلِ قَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ أَصْلِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشَدُّ حُكْمًا مِنْ الرَّجْعِيَّةِ وَقَدْ تُذْكَرُ لِبَيَانِ نِهَايَةِ التَّفَاوُتِ وَهُوَ مُطْلَقُ التَّفَاوُتِ وَذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ، فَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مِلْءَ الْبَيْتِ فَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ كَانَ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: مِلْءَ الْبَيْتِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْكَثْرَةَ وَالْعَدَدَ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ وَهِيَ الْعِظَمُ وَالْقُوَّةُ فَأَيُّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَعِنْدَ انْعِدَامِ النِّيَّةِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَقْبَحَ الطَّلَاقِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ رَجْعِيٌّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ هُوَ بَائِنٌ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ وَصَفَ الطَّلَاقَ بِالْقُبْحِ وَالطَّلَاقُ الْقَبِيحُ هُوَ الطَّلَاقُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْبَائِنُ فَيَقَعُ بَائِنًا وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ الطَّبَعِيَّ وَهُوَ الْكَرَاهِيَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ الطَّلَاقُ فِيهِ طَبْعًا فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ فِيهِ بِالشَّكِّ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: أَقْبَحَ الطَّلَاقِ يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِجِهَةِ الْإِبَانَةِ وَيَحْتَمِلُ الْقُبْحَ بِإِيقَاعِهِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْبَائِنِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الطَّلَاقِ حَالَةَ الْحَيْضِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا تَثْبُت الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ وَنَوَى وَاحِدَةً بَائِنَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ؛؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَلَوْ شَبَّهَ صَرِيحَ الطَّلَاقَ بِالْعَدَدِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ وَإِمَّا أَنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا لَا عَدَدَ لَهُ فَإِنْ شَبَّهَ بِالْعَدَدِ فِيمَا هُوَ ذُو عَدَدٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ فَهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ: (الْأَوَّلِ) هَذَا.
(وَالثَّانِي) أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً كَأَلْفٍ أَوْ مِثْلِ أَلْفٍ، وَالثَّالِثِ أَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ