للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَّا بِالْهَدْيِ وَهُوَ: أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ أَوْ بِثَمَنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيًا فَيُذْبَحَ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُذْبَحْ لَا يَحِلُّ.

وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِغَيْرِ ذَبْحٍ عِنْدَ الْإِحْصَارِ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُحْصَرُ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَيَذْبَحُهُ.

وَيَحِلُّ وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ.

وَإِنْ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ» ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرَهُ كَانَ هَدْيًا سَاقَهُ لِعُمْرَتِهِ لَا لِإِحْصَارِهِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ عَلَى النِّيَّةِ الْأُولَى، وَحَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ دَمٍ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ نَحَرَ دَمَيْنِ، وَإِنَّمَا نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا.

وَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمٍ لَنَحَرَ دَمَيْنِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ.

وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] مَعْنَاهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحَ، نَهَى ﷿ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي مَحِلِّهِ، وَهُوَ الْحَرَمُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَقْتَ الْإِحْصَارِ أَمْ لَا، شَرَطَ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَلُّلِ بِالْهَدْيِ، فَلَا يَثْبُتُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ.

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ، إذْ لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ حَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ.

وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُحْصَرَ أَنْ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.

وَلَكِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ - أَنَّهُ نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي كَانَ سَاقَهُ النَّبِيُّ كَانَ هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، فَلَمَّا مُنِعَ عَنْ الْبَيْتِ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ: إنَّ النَّبِيَّ صَرَفَ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ بَاعَ هَدِيَّةَ التَّطَوُّعِ فَهُوَ مُسِيءٌ لِمَا أَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاعَهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا فَأَمَّا النَّبِيُّ فَلَمْ يَصْرِفْ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَصْلًا وَرَأْسًا، بَلْ صَرَفَهُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ: وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَهُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ جَعَلَ الْهَدْيَ لِإِحْصَارِهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ.

وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ انْحَرُوا وَحِلُّوا» وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.

وَإِذَا لَمْ يَتَحَلَّلْ إلَّا بِالْهَدْيِ وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ يَجِبُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ، أَوْ ثَمَنَهُ لِيُشْتَرَى بِهِ الْهَدْيُ فَيُذْبَحُ عَنْهُ وَيَجِبُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا يُذْبَحُ فِيهِ؛ فَيَحِلُّ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَحِلُّ قَبْلَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ، فَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَكُونَ الْيَوْمُ الَّذِي وَاعَدَهُمْ فِيهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَدْيَهُ قَدْ ذُبِحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى لَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ؛ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ لِعُذْرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] أَيْ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «فِي نَزَلَتْ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ مَرَّ بِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ : أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: احْلِقْ وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ اُنْسُكْ نَسِيكَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ» وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشَّاةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ مُجْزِئَةٌ فِي الْفِدْيَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: اُنْسُكْ شَاةً» وَإِذَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِالنَّصِّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ لَا لِأَذًى بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ سَبَبُ تَخْفِيفِ الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَمَّا وَجَبَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ؛ فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ

<<  <  ج: ص:  >  >>