للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَوْلَى.

وَلَا يُجْزِئُ دَمُ الْفِدْيَةِ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَدَمِ الْإِحْصَارِ، وَدَمِ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ.

وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ: فَإِنَّهُمَا يُجْزِيَانِ حَيْثُ شَاءَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ إلَّا بِمَكَّةَ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَّةَ، فَكَذَا الصَّدَقَةُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ، إلَّا أَنَّ النُّسُكَ قَيْدٌ بِالْمَكَانِ بِدَلِيلٍ " فَمَنْ ادَّعَى تَقْيِيدَ الصَّدَقَةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ".

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمِ فَكَذَا الصَّدَقَةُ فَنَقُولُ: هَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ فِي الْحَرَمِ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.

وَلَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ يَجُوزُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ إلَّا بِمَكَّةَ

وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ صَدَقَةً، لَهُ أَنْ يُطْعِمَ، وَيَتَصَدَّقَ حَيْثُ شَاءَ، فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.

وَلَوْ حَلَّ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ ذُبِحَ عَنْهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ فَهُوَ مُحْرِمٌ كَمَا كَانَ، لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يُذْبَحْ عَنْهُ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِلِّ وَهُوَ: ذَبْحُ الْهَدْيِ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ تَنَاوُلَ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ، ثُمَّ الْهَدْيُ: بَدَنَةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، وَأَدْنَاهُ شَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا.

وَلِأَنَّ الْهَدْيَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى أَيْ: يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ وَفِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.

وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.

وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَمَتِّعِ وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ الْبُدْنَ، وَكَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا» وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمَيْنِ عِنْدَنَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: إنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهَدْيَيْنِ، وَعِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ.

وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيُّهُمَا لِلْحَجِّ، وَأَيُّهُمَا لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُمَا وَاحِدٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَقَضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ.

وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْقَارِنِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِتَحَلُّلِهِ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ عَنْ الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ الطَّوَافَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ، فَكَذَا بِأَحَدِ الْهَدْيَيْنِ.

وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا: تَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَقَلُّهُمَا، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ.

وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَسَمَّاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا الْحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ؛ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّهُ يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بِدَمٍ وَاحِدٍ.

وَأَمَّا لُزُومُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّةٍ فَالْعُمْرَةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا، وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ فَالْحَجَّةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ، كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَارِنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ عَلَى طَرِيقِ النُّسُكِ.

وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَالْحَرَمُ عِنْدَنَا.

وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَذْبَحَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَحَرَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا.

وَذَلِكَ فِي الذَّبْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَوْضِعٍ مَحِلًّا لَهُ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِلِّ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ ﷿ قَالَ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] أَيْ: إلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ.

بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْسُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ بِالْبَيْتِ وَهَهُنَا ذَكَرَ إلَى الْبَيْتِ.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحَرَمِ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ فَحَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فَجَاءَ

<<  <  ج: ص:  >  >>