سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَعْرِضُ عَلَيْهِ الصُّلْحَ وَأَنْ يَسُوقَ الْبُدْنَ وَيَنْحَرَ حَيْثُ شَاءَ، فَصَالَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ» وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بُدْنَهُ فِي الْحِلِّ مَعَ إمْكَانِ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ بِقُرْبِ الْحَرَمِ بَلْ هُوَ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ،» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَنْحَرَ بُدْنَهُ فِي الْحَرَمِ حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتْرُكَ نَحْرَ الْبُدْنِ فِي الْحَرَمِ، وَلَهُ سَبِيلُ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مَكَانٌ يَجْمَعُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ جَمِيعًا، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحِلِّ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَهُوَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَلَا يَحِلُّ مِنْهُ إلَّا بِذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِفَقْدِ شَرْطِ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ: الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ، فَبَقِيَ مُحْرِمًا كَمَا كَانَ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ فِي تَنَاوُلِهِ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ الْهَدْيَ وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْبَحُوا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ بَعَثَ هَدْيَيْنِ وَهُوَ مُفْرِدٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ الْآخَرُ تَطَوُّعًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ عِنْدَ وُجُودِ ذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا.
وَلَوْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَبْحِهِمَا وَلَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ فِي حَقِّهِ الزَّمَانُ، فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَحِلُّ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَلَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْعَثُ، وَلَا ثَمَنَهُ هَلْ يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَيَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْهُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَيُقِيمُ حَرَامًا حَتَّى يُذْبَحَ الْهَدْيُ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ يَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَيَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ كَمَا يَفْعَلُهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ: أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ: قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِ: إنَّ الْهَدْيَ لِلْإِحْصَارِ بَدَلًا، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مَاهِيَّةِ الْبَدَلِ فَقَالَ فِي قَوْلِ: الْبَدَلُ هُوَ الصَّوْمُ مِثْلَ صَوْمِ الْمُتْعَةِ، وَفِي قَوْلِ: الْبَدَلُ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهَلْ يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ؟ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ لَهُ بَدَلًا أَنَّ هَذَا دَمٌ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ كَدَمِ الْمُتْعَةِ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] أَيْ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحُ، نَهَى اللَّهُ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ.
وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ مَا لَمْ يَذْبَحْ الْهَدْيَ، سَوَاءٌ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، أَوْ لَا.
وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قَبْلَ إتْمَامِ مَوَاجِبِ الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ.
وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ " وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ ".
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: " أَرَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ "، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هُوَ وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ ".
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ وَقَالَ: " إنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ.
فَأَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ: يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا "، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ» فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ وَاجِبٌ، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] مَعْنَاهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ إذَا أَرَادَ الْحِلَّ كُلٌّ مُوجِبٌ الْإِحْصَارَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجِبِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَالْمُحْصَرُ لَا يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا حَلْقَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ: لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ فَأُمِرَ بِالْحَلْقِ، وَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ: مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ.
وَأَمَّا زَمَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَمُطْلَقُ الْوَقْتِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إنَّ الْمُحْصَرَ عَنْ الْحَجِّ لَا يُذْبَحُ عَنْهُ إلَّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَنْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ هَذَا الدَّمَ سَبَبٌ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِزَمَانِ التَّحَلُّلِ كَالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، فَكَذَا