للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْوِفَاقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعَفْوِ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ أَكْثَرَ فَصَالَحَ وَلَيُّ أَحَدِ الْقَتِيلَيْنِ فَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ، وَكَذَا لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ مَعَ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ لِلْآخَرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَفْوِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمَوْلَى فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا وَمِنْهَا إرْثُ الْقِصَاصِ بِأَنْ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ، فَوَرِثَ الْقَاتِلُ الْقِصَاصَ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً، وَلَوْ قَتَلَ رَجُلَانِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْنُ الْآخَرِ عَمْدًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَارِثُ الْآخَرِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : يُوَكِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلًا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فَيَقْتُلُهُمَا الْوَكِيلَانِ مَعًا، وَقَالَ زُفَرُ : يُقَالُ لِلْقَاضِي: ابْتَدِئْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ، وَسَلِّمْهُ إلَى الْآخَرِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْآخَرِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرِ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَمَكَّنُ اسْتِيفَاؤُهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُوْفِيَ أَحَدُهُمَا يَسْقُطُ الْآخَرُ لِصَيْرُورَةِ الْقِصَاصِ مِيرَاثًا لِلْقَاتِلِ الْآخَرِ، فَكَانَ الْخِيَارُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي يَبْتَدِئُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَيُسَلِّمُهُ إلَى الْآخَرِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنْ الْآخَرِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَتَوَارَثَانِ، كَمَا فِي الْغَرْقَى، وَالْحَرْقَى.

(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُعْقَلُ لَهُ مَعْنًى سِوَاهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُسْتُوْفِيَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْآخَرُ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَتَعَذَّرَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ أَحَدِ الْقَصَاصَيْنِ بَقَاءُ حَقِّ أَحَدِهِمَا، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَالْقَوْلُ بِاسْتِيفَائِهِمَا بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ قَلَّمَا يَتَّفِقَانِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَادَةً، وَكَذَا أَثَرُهُمَا الثَّابِتُ عَادَةً، وَهُوَ فَوَاتُ الْحَيَاةِ، وَفِي ذَلِكَ إسْقَاطُ الْقِصَاصِ عَنْ الْآخَرِ، وَقَالُوا فِي رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ قَتَلَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ عَمْدًا، ثُمَّ مَاتَ الْمَقْطُوعُ يَدُهُ مِنْ الْقَطْعِ إنَّ عَلَى الْقَاطِعِ الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِوَلِيِّ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ، وَهُوَ الْقَطْعُ السَّابِقُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَطْعَ صَارَ بِالسِّرَايَةِ قَتْلًا، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا يَسْقُطُ بِقَتْلِ الْمَقْطُوعِ يَدُهُ ابْنَ الْقَاطِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَمِنْهَا) حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ لِحُصُولِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَبِالْعَمْدِ أَوْلَى.

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَجِبُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِرَفْعِ الذَّنْبِ، وَمَحْوِ الْإِثْمِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَالذَّنْبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَعْظَمُ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ أَشَدُّ.

(وَلَنَا) أَنَّ التَّحْرِيرَ أَوْ الصَّوْمَ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ حَيْثُ سَلِمَ لَهُ أَعَزُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ الْحَيَاةُ، مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْقِصَاصِ، وَكَذَا ارْتَفَعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَوَازِ الْمُؤَاخَذَةِ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَمْدِ، فَيُقَدَّرُ الْإِيجَابُ شُكْرًا أُوجِبَ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عَنْ الْقَتْلِ بِطَرِيقِ الْخَطَأِ، وَأُلْحِقَ بِالتَّوْبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِخِفَّةِ الذَّنْبِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ، وَالذَّنْبُ هَهُنَا أَعْظَمُ فَلَا يَصْلُحُ لِتَحْرِيرِ تَوْبَةٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ مِنْهَا وُجُوبُ الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَمَّا وُجُوبُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْقِصَاصَ امْتَنَعَ وُجُوبُهُ مَعَ وُجُودِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ لِلشُّبْهَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ.

وَأَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ فَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْكَيْفِيَّةِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ.

وَأَمَّا الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَةَ إنَّمَا تَعْقِلُ الْخَطَأَ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ نَظَرًا لَهُ لِوُقُوعِهِ فِيهِ لَا عَنْ قَصْدٍ، وَفِي هَذَا الْقَتْلِ شُبْهَةُ عَدَمِ الْقَصْدِ لِحُصُولِهِ بِآلَةٍ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقَتْلُ عَادَةً، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّخْفِيفِ، وَمِنْهَا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةَ فِي هَذَا الْقَتْلِ؟ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهَا تَجِبُ، وَأَلْحَقَهُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا تَجِبُ، وَأَلْحَقَهُ بِالْعَمْدِ الْمَحْضِ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.

(وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْخَطَأِ إمَّا لِحَقِّ الشُّكْرِ أَوْ لِحَقِّ التَّوْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالدَّاعِي إلَى الشُّكْرِ، وَالتَّوْبَةِ هَهُنَا مَوْجُودٌ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَنِ، وَكَوْنُ الْفِعْلِ جِنَايَةً فِيهَا نَوْعُ خِفَّةٍ لِشُبْهَةِ عَدَمِ الْقَصْدِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>