للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ» فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُدَّةُ مُقَدَّرَةً بِالثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الثَّلَاثِ مَعْنًى، وَالْحَدِيثَانِ فِي حَدِّ الِاسْتِفَاضَةِ وَالِاشْتِهَارِ فَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِهِمَا إنْ كَانَ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ نَسْخًا مَعَ مَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ السَّيْرِ فِيهَا مُسَافِرًا، يُقَالُ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ أَيْ: سَارَ فِيهَا مُسَافِرًا، فَكَانَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةً عَنْ سَيْرٍ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ بِهِ مُسَافِرًا لَا مُطْلَقَ السَّيْرِ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَيْرٍ مُطْلَقٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ؟ وَكَذَا مُطْلَقُ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ يَقَعُ عَلَى سَيْرٍ يُسَمَّى سَفَرًا، وَالنِّزَاعُ فِي تَقْدِيرِهِ شَرْعًا وَالْآيَةُ سَاكِتَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّقْدِيرِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ " وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ " (وَاحْتَجَّ) مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِيمَا دُونَ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ وَهُوَ غَرِيبٌ فَلَا يُقْبَلُ خُصُوصًا فِي مُعَارَضَةِ الْمَشْهُورِ.

(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِضَرْبِ مَشَقَّةٍ يَخْتَصُّ بِهَا الْمُسَافِرُونَ وَهِيَ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ، وَالسَّيْرِ، وَالنُّزُولِ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ رَحْلِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَحَطِّهِ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرِ، وَهَذِهِ الْمَشَقَّاتُ تَجْتَمِعُ فِي يَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَحُطُّ الرَّحْلَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَحْمِلُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَالسَّيْرُ مَوْجُودٌ فِي الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا مَشَقَّةُ السَّيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ الرَّحْلَ مِنْ وَطَنِهِ وَيَحُطُّهُ فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَيُقَدَّرُ بِيَوْمَيْنِ لِهَذَا.

(وَلَنَا) مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِكْمَالِ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَمَا دُونَ الثَّلَاثِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالثَّلَاثُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى يَبْطُلُ بِمَنْ سَافَرَ يَوْمًا عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مَشَقَّةُ الْحَمْلِ وَالْحَطِّ وَالسَّيْرِ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَمَعَ هَذَا لَا يَقْصُرُ عِنْدَهُ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِاجْتِمَاعِ الْمَشَقَّاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مَشَقَّةُ حَمْلِ الرَّحْلِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَالسَّيْرُ وَحَطُّهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ؛ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ؛ لِأَنَّ أَبْطَأَ السَّيْرِ سَيْرُ الْعَجَلَةِ، وَالْأَسْرَعَ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، فَكَانَ أَوْسَطُ أَنْوَاعِ السَّيْرِ سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» وَلِأَنَّ الْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ يَتَجَاذَبَانِ فَيَسْتَقِرُّ الْأَمْرُ عَلَى الْوَسَطِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ سَارَ فِي الْمَاءِ يَوْمًا وَذَلِكَ فِي الْبَرِّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَنَّهُ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلْإِسْرَاعِ، وَكَذَا لَوْ سَارَ فِي الْبَرِّ إلَى مَوْضِعٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَأَنَّهُ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْمَشْيِ الْمُعْتَادِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَقْصُرُ اعْتِبَارًا لِلسَّيْرِ الْمُعْتَادِ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَافَرَ فِي الْجِبَالِ وَالْعَقَبَاتِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِيهَا لَا فِي السَّهْلِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِمَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ بِالْمَرَاحِلِ فِي السَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْفَرَاسِخِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّرِيقِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا خَرَجَ إلَى مِصْرٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَمْكَنَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ قَصَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَمْ يَقْصُرْ وَيَكُونُ كَالْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ وَقَدْ وُجِدَ وَالثَّانِي: نِيَّةُ مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ السَّيْرَ قَدْ يَكُونُ سَفَرًا وَقَدْ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْ مِصْرِهِ إلَى مَوْضِعٍ لِإِصْلَاحِ الضَّيْعَةِ ثُمَّ تَبْدُو لَهُ حَاجَةٌ أُخْرَى إلَى الْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ سَفَرٍ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يَقْطَعَ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ لَا لِقَصْدِ السَّفَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ هُوَ نِيَّةُ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ حَتَّى يَصِيرَ الْعَبْدُ مُسَافِرًا بِنِيَّةِ مَوْلَاهُ، وَالزَّوْجَةُ بَنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ.

وَأَمَّا الْغَرِيمُ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ: فَإِنْ كَانَ مَلِيًّا فَالنِّيَّةُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفْلِسًا فَالنِّيَّةُ إلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَكَانَ تَابِعًا لَهُ وَالثَّالِثُ: الْخُرُوجُ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ السَّفَرِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ وَأَصْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَزْمِ عَفْوٌ، وَفِعْلُ السَّفَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمِصْرِ فَمَا لَمْ يَخْرُجْ لَا يَتَحَقَّقُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>