للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْمُبَاحَاتِ وَالْمُرَخَّصَاتِ دُونَ الْفَرَائِضِ وَالْعَزَائِمِ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِشَطْرِ الصَّلَاةِ أَلَا فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُخْتَارًا فِي قَبُولِ الصَّدَقَةِ كَمَا فِي التَّصَدُّقِ مِنْ الْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْقَصْرَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُسَافِرِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَضَاعِفَةِ، وَالتَّخْفِيفُ فِي التَّخْيِيرِ فَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْقَصْرِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى الْإِكْمَالِ كَمَا فِي الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَامٌّ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ » .

وَرُوِيَ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ، وَرَوَى الْفَقِيهُ الْجَلِيلُ أَبُو أَحْمَدَ الْعِيَاضِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَكَذَا.

وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَر عَلَى مَا كَانَتْ وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ إلَّا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ» .

وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ رُخْصَةً وَالْإِكْمَالُ هُوَ الْعَزِيمَةُ لَمَا تَرَكَ الْعَزِيمَةَ إلَّا أَحْيَانًا، إذْ الْعَزِيمَةُ أَفْضَلُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَا يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا أَفْضَلَهَا وَكَانَ لَا يَتْرُكُ الْأَفْضَلَ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ تَعْلِيمًا لِلرُّخْصَةِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَأَمَّا تَرْكُ الْأَفْضَلِ أَبَدًا وَفِيهِ تَضْيِيعُ الْفَضِيلَةِ عَنْ النَّبِيِّ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ فَمِمَّا لَا يُحْتَمَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَصَرَ بِمَكَّةَ وَقَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَلَوْ جَازَ الْأَرْبَعُ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يَغْتَنِمُ زِيَادَةَ الْعَمَلِ فِي الْحَرَمِ لِمَا لِلْعِبَادَةِ فِيهِ مِنْ تَضَاعُفِ الْأَجْرِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ إمَامًا وَخَلْفَهُ الْمُقِيمُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا كَيْ لَا يَحْتَاجَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ إلَى التَّفَرُّدِ وَلِيَنَالُوا فَضِيلَةَ الِائْتِمَامِ بِهِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا.

وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنًى فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ إنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» فَدَلَّ إنْكَارُ الصَّحَابَةِ وَاعْتِذَارُ عُثْمَانَ أَنَّ الْفَرْضَ مَا قُلْنَا إذْ لَوْ كَانَ الْأَرْبَعُ عَزِيمَةً لَمَا أَنْكَرَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ وَلَمَا اعْتَذَرَ هُوَ إذْ لَا يُلَامُ عَلَى الْعَزَائِمِ وَلَا يُعْتَذَرُ عَنْهَا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا.

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ أَيْ: خَالَفَ السُّنَّةَ اعْتِقَادًا لَا فِعْلًا وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلَاهُ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ وَالْآخَرُ يَقْصُرُ عَنْ حَالِهِمَا فَقَالَ لِلَّذِي قَصَرَ: أَنْتَ أَكْمَلْتَ وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَنْتَ قَصَرْتَ.

وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا أَصْلُ الْقَصْرِ لَا صِفَتُهُ وَكَيْفِيَّتُهُ، وَالْقَصْرُ قَدْ يَكُونُ عَنْ الرَّكَعَاتِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفِ الْعَدُوِّ لَا بِتَرْكِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ مُرَخَّصٌ عِنْدَنَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ مَعَ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ لَيْسَ هُوَ الْقَصْرُ عَنْ الرَّكَعَاتِ " وَهُوَ تَرْكُ شَطْرِ الصَّلَاةِ "؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الْخَوْفِ وَهُوَ خَوْفُ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: ١٠١] وَالْقَصْرُ عَنْ الرَّكَعَاتِ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ الْخَوْفِ بَلْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَالْحَدِيثُ دَلِيلُنَا؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَبُولِ فَلَا يَبْقَى لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ شَرْعًا إذْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَقَوْلُهُ: " الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ يَكُونُ مُخْتَارًا فِي الْقَبُولِ " قُلْنَا: مَعْنَى قَوْلِهِ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ أَيْ: حَكَمَ عَلَيْكُمْ عَلَى أَنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ كَالْعَفْوِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَعْنَى غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ تَرْفِيهًا بِقَصْرِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، بَلْ لَمْ يُشْرَعْ فِي السَّفَرِ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ " لَا تَقُولُوا قَصْرًا فَإِنَّ الَّذِي فَرَضَهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا هُوَ الَّذِي فَرَضَهَا فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ " وَلَيْسَ إلَى الْعِبَادِ إبْطَالُ قَدْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُوَظَّفَةِ عَلَيْهِمْ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الْمَغْرِبَ أَرْبَعًا أَوْ الْفَجْرَ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ كَذَا هَذَا وَلَا قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِسُقُوطِ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنْهُمَا لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَكَذَا لَا قَصْرَ فِي السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَاتِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ بِالتَّوْقِيفِ، وَلَا تَوْقِيفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>