للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ لَا يُقِيمُ؛ لِمَا فِي الْإِقَامَةِ مِنْ نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِسَبَبِ عَيْبِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَوْ يَخَافُ سِرَايَةَ الْجَلَدَاتِ إلَى الْهَلَاكِ.

وَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ، وَلَوْ أَقَامَ - فَقَدْ يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ وَقَدْ لَا يُقِيمُ عَلَى الْوَجْهِ، بَلْ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي تَحْصِيلِ مَا شُرِعَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ، فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّ التَّعْزِيرَ: هُوَ التَّغْيِيرُ وَالتَّوْبِيخُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَتَعْبِيسِ الْوَجْهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِضَرْبِ أَسْوَاطٍ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الْجَانِي؛ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْمَوْلَى يُسَاوِي الْإِمَامَ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّأْدِيبِ فَلَهُ قُدْرَةُ التَّأْدِيبِ، وَالْعَبْدُ يَنْقَادُ لِمِثْلِهِ لِلْمَوْلَى وَلَا يُعَارِضُهُ، فَالْمَوْلَى أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِيلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا تَعْيِيبًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْحَدِّ.

وَالثَّانِي - أَنَّ فِي التَّعْزِيرِ ضَرُورَةً لَيْسَتْ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهَا، فَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَفِي الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ حَرَجٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمَوَالِي؛ فَفُوِّضَتْ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَى الْمَوَالِي شَرْعًا، أَوْ صَارَ الْمَوْلَى مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ دَلَالَةً، وَصَارَ نَائِبًا عَنْ الْإِمَامِ فِيهِ، وَلَا حَرَجَ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ؛ لِانْعِدَامِ كَثْرَةِ أَسْبَابِ وُجُوبِهِ وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ، عُلِمَ مِنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ الْحُدُودَ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالسُّلْطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ فِي حَقِّ عَبِيدِهِمْ، وَالتَّخْصِيصُ لِلتَّرْغِيبِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ وَالسَّلَاطِينَ لَا يُبَاشِرُونَ الْإِقَامَةَ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَةً بَلْ يُفَوِّضُونَهَا إلَى الْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِينَ، وَقَدْ يَجِيءُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَقْصِيرٌ، وَيُحْتَمَلُ الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالسَّعْيِ لِرَفْعِ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ، وَتَخْصِيصُ الْمَوْلَى لِلتَّرْغِيبِ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ؛ لِاحْتِمَالِ الْمَيْلِ وَالتَّقْصِيرِ فِي ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ التَّعْزِيرَ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِّ فِيهِ - وَهُوَ الْمَنْعُ - فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا مَعَ الِاحْتِمَالِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ فِي أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَيْهَا، وَفِي الْإِحْضَارِ إلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ - لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ وَلِهَذَا «كَانَ يَجْعَلُ إلَى الْخُلَفَاءِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ» ، ثُمَّ الِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ: تَنْصِيصٌ، وَتَوْلِيَةٌ، أَمَّا التَّنْصِيصُ: فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى إقَامَةِ الْحُدُودِ؛ فَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ إقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ.

وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً، مِثْلَ إمَارَةِ إقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ عَظِيمٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إمَارَةَ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ - وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مُعْظَمُ مَصَالِحِهِمْ - فَيَمْلِكُهَا، وَالْخَاصَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً، مِثْلَ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إقَامَةَ الْحُدُودِ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ أَمِيرٌ عَلَى الْجَيْشِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ أَمِيرَ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ - فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ فِي مُعَسْكَرِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بِأَهْلِهِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَمْلِكُ فِيهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ.

وَأَمَّا مَنْ أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فَمَا كَانَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ، لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْإِقَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ، وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ وَيُنْفِذَ الْقَضَاءَ فِي مُعَسْكَرِهِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ دَارِ الْإِسْلَامِ ثَابِتَةً، وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ قَاضِيًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُعَسْكَرِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا الْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ فِي حَدِّ الرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ الْبِدَايَةِ أَوْ مَاتُوا أَوْ غَابُوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ - لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقَامُ الرَّجْمُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّهُودَ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهَادَةِ وَسَائِرَ النَّاسِ سَوَاءٌ، ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْبِدَايَةُ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَكَذَا مِنْ الشُّهُودِ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَالْبِدَايَةُ مِنْ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ كَذَا فِي الرَّجْمِ.

(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَرْجُمُ الشُّهُودُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِمَامُ، ثُمَّ النَّاسُ وَكَلِمَةُ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>