وَجْهُ) الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْقَبْضِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ إذْنًا بِمَا فِيهِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَقَعُ تَسْلِيطًا عَلِيَ الْقَبْضِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا مَانِعَ مِنْ الْقَبْضِ إنْ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا وَإِنَّمَا شُرِطَ الْمَجْلِسُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فَيُشْتَرَطُ لَهُ الْمَجْلِسُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْقَبُولِ وَاَللَّهُ ﷿ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْبَيْعُ الْبَاطِلُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا كَمَا لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إلَّا مِنْ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُطْلَقًا وَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا فَلَمْ يَكُنْ مَالًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ.
وَكَذَا بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ تَقَوُّمَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ أَهَانَهَا عَلَيْهِمْ فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْمُسَمَّى وَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَمْ تَصِحَّ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ إذْ التَّقْوِيمُ يَنْبَنِي عَنْ الْعِزَّةِ، وَالشَّرْعُ أَهَانَ الْمُسَمَّى عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ؟ وَلَا قِيمَةَ لَهُ؟ ، وَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ يَبْطُلُ ضَرُورَةً، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَصَّلَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ تَفْصِيلًا فَقَالَ: إنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الثَّوْبِ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ هُوَ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلتَّمَلُّكِ، وَالتَّمْلِيكُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَقْصُودٌ بَلْ تَمْلِيكُ الثَّوْبِ وَتَمَلُّكُهُ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ، فَالتَّسْمِيَةُ إنْ لَمْ تَظْهَرْ فِي حَقِّ الْخَمْرِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّوْبِ وَلَا مُقَابِلَ لَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُشْتَرِي بَاعَ الثَّوْبَ وَلَمْ يَذْكُرْ الثَّمَنَ فَيَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَتَصِيرُ الْخَمْرُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا.
(وَأَمَّا) بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، وَكَذَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْخَمْرُ مَالٌ فِي حَقِّنَا إلَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا شَرْعًا، فَإِذَا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ثَمَنًا فَقَدْ ذَكَرَ مَا هُوَ مَالٌ، وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ أَوْ مَرْغُوبًا فِيهِ عِنْدَ النَّاسِ بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ يَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَوْ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُتَقَوِّمًا شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ فِي الْجُمْلَةِ مَرْغُوبٌ فِيهَا فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِمَا يَرْعَى إبِلَهُ مِنْ أَرْضِهِ مِنْ الْكَلَأِ أَوْ بِمَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءِ بِئْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَنًا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، وَكَذَا هُوَ مَجْهُولٌ أَيْضًا فَانْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ.
قَالَ عَامَّتُهُمْ: يَبْطُلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْطُلُ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى ثَمَنًا لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا، وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا فِي الْجُمْلَةِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قَالَ: بِعْتُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يَبْطُلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ كَمَا إذَا بَاعَ وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الثَّمَنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مَالًا بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ حَتَّى بَطَلَ الْبَيْعُ فَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَالَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ أَمَانَةً؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فِي عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى فَالْتَحَقَ الْعَقْدُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إذْنُهُ بِالْقَبْضِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى حُكْمِ هَذَا الْبَيْعِ لَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ بِعَلَيَّ سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى.
(وَأَمَّا) الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ فَهُوَ بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ يُعْرَفُ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute