الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ كُلَّ يَمِينٍ بِالطَّلَاقِ، وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْإِيلَاءَ.
أَمَّا الَّذِي يَعُمُّ فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الشَّرَائِطِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ حَتَّى لَا يَصْلُحَ إيلَاءُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ.
وَكَذَا لَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ أَوْ مُدَبَّرَتِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ لَمْ يَصِحَّ إيلَاؤُهُ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْإِيلَاءَ بِالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦] وَالزَّوْجَةُ اسْمٌ لِلْمَمْلُوكَةِ بِمِلْكِ النِّكَاحِ، وَشَرْعُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَأَنَّهَا، وَرَدَتْ فِي الْأَزْوَاجِ فَتَخْتَصُّ بِهِمْ،؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهَا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لِمَنْعِهِ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ مَنْعًا مُؤَكَّدًا بِالْيَمِينِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ قِبَلَ مَوْلَاهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الظُّلْمُ، فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّفْعِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَلَا طَلَاقَ بِدُونِ النِّكَاحِ، وَلَوْ آلَى مِنْهَا وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهُوَ مُولٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِهَذَا صَحَّ طَلَاقُهُ، وَظِهَارُهُ، وَيَتَوَارَثَانِ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ وَالْإِيلَاءُ لَا يَنْعَقِدُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى بِدُونِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا إذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الْبِرِّ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بَعْدَ التَّزَوُّجِ وَلَمْ يَفِئْ إلَيْهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ أَوْ قَبْلَهُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَلَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا صَارَ مُولِيًا عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ التَّزَوُّجِ وَالْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ يَصِحُّ فِي الْمِلْكِ أَوْ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ، وَهَهُنَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُولِيًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَكَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّطْلِيقِ فَهُوَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَخُصُّ الْإِيلَاءَ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُدَّةُ، وَهِيَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ يَحْلِفَ مُطْلَقًا أَوْ مُؤَبَّدًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فِي حَقِّ الطَّلَاقِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ ﵃ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، يَسْتَوِي فِيهَا الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا يَوْمًا أَوْ سَاعَةً كَانَ مُولِيًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄: إنَّ الْإِيلَاءَ عَلَى الْأَبَدِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَحْلِفَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ﵁ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا فَلَمَّا كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا تَرَكَ إيلَاءَهُنَّ فَقِيلَ لَهُ إنَّك آلَيْتَ شَهْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعَةٌ، وَعِشْرُونَ يَوْمًا» ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكَرْ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لِلْإِيلَاءِ مُدَّةً بَلْ أَطْلَقَهُ إطْلَاقًا بِقَوْلِهِ ﷿ ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦] فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ لِثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ حَتَّى تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ لَا لِيَصِيرَ إيلَاءً شَرْعًا، وَبِهِ نَقُولُ، وَلَنَا قَوْله تَعَالَى ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ﴾ [البقرة: ٢٢٦] ذِكْرٌ لِلْإِيلَاءِ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ مُدَّةً مُقَدَّرَةً، فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ عَلَى مَا دُونَهَا إيلَاءً فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جُعِلَ طَلَاقًا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْبِرِّ شَرْعًا بِوَصْفِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ الْجِمَاعِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا، فَلَا يُجْعَلُ طَلَاقًا بِدُونِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ هُوَ الْيَمِينُ الَّتِي تَمْنَعُ الْجِمَاعَ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْحِنْثِ، وَبَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَطَأَهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ يَلْزَمُهُ، فَلَا يَكُونُ هَذَا إيلَاءً.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُدَّةَ ذُكِرَتْ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا لِلْإِيلَاءِ فَنَقُولُ: ذِكْرُ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ لَا يَكُونُ ذِكْرًا فِي الْإِيلَاءِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْإِيلَاءِ إذْ بِهِ يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ الْمُحَقِّقُ لِلظُّلْمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ آلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا، وَعِنْدَنَا مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَا يَكُونُ مُولِيًا فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ﵄: " الْإِيلَاءُ عَلَى الْأَبَدِ " مُحْتَمَلٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا عَنْ الْوَقْتِ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْأَبَدُ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَبَدِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ حُكْمِ الطَّلَاقِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إيلَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute