الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ لَا مَخْرَجَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ النَّهْيِ وَالْعِتَابِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨] وَالثَّانِي: إنْ كَانَ ذَلِكَ الْخِطَابُ عِتَابًا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا عُوتِبَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِلَا إذْنٍ سَبَقَ مِنْ اللَّهِ ﷿ وَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَ مُبَاحًا فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ تَنَاوُلِ الْحَلَالِ وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُعَاتَبُونَ عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُمْ يُوجَدُ مِمَّا لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَعُدَّ مِنْ أَفْضَلِ شَمَائِلِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣] وَقَوْلِهِ ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: ١] ﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: ٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالثَّانِي: إنْ كَانَ هَذَا تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لِمَ قُلْت إنَّ كُلَّ تَحْرِيمِ حَلَالٍ مِنْ الْعَبْدِ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ بَلْ ذَلِكَ نَوْعَانِ: تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا.
وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ بَلْ اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، وَتَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةٍ لَا يَكُونُ تَغْيِيرًا بَلْ يَكُونُ بَيَانَ نِهَايَةِ الْحَلَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْحِلُّ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ وُجُودِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ التَّطْلِيقُ مِنْ الزَّوْجِ تَغْيِيرًا لِلشَّرْعِ بَلْ كَانَ بَيَانَ انْتِهَاءِ الْحِلِّ،، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ وَالسُّقُوطَ، وَعَلَى هَذَا سَبِيلُ النَّسْخِ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّنَاسُخَ، فَكَذَا قَوْلُهُ: لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَالتَّشْبِيهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا وَلَهُمَا أَنَّهُ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً وَالْمَرْأَةُ تَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالطَّلَاقِ، وَتَارَةً تَكُونُ مُحَرَّمَةً بِالظِّهَارِ فَأَيَّ ذَلِكَ نَوَى فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِيهِ هَذَا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الْمَرْأَةِ.
فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ أَوْ اللِّبَاسِ بِأَنْ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ هَذَا الشَّرَابُ أَوْ هَذَا اللِّبَاسُ فَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنَّهُ يَمِينٌ أَمْ لَا؟ وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
(وَلَنَا) قَوْلُهُ ﷿ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] قِيلَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِينًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢] فَدَلَّ أَنَّ تَحْرِيمَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ يَمِينٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ تَحِلَّةَ الْيَمِينِ هِيَ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ فِيهِمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ لَكَانَ يَمِينًا، فَكَذَا إذَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ يَمِينًا؛ كَلَفْظِ الْقَسَمِ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ كَانَ يَمِينًا، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى غَيْرِهِمَا كَانَ يَمِينًا أَيْضًا، كَذَا هَذَا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ يَمِينًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَانْحَلَّتْ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْمُعَيَّنِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُعَيَّنِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ فَقَدْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَيَحْنَثُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ هُنَاكَ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ - وَهُوَ أَكْلُ كُلِّ الطَّعَامِ - وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ: نِسَائِي عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ فَقَرِبَ إحْدَاهُنَّ كَفَّرَ، وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ فِيهِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى جَمْعٍ فَيُوجِبُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ فَصَارَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجَمْعِ مُحَرَّمًا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِذَا قَرِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَقَدْ فَعَلَ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَحْنَثُ، وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرُبْ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى انْفِرَادِهَا وَالْإِيلَاءُ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ، هَذَا إذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إلَى نَوْعٍ خَاصٍّ،.
فَأَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا بِأَنْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ عَقِيبَ كَلَامِهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اللَّفْظَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ حَلَالٍ، وَكَمَا فَرَغَ عَنْ يَمِينِهِ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ حَلَالٍ يُوجَدُ مِنْهُ فَيَحْنَثُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا عَامٌّ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى كُلِّ مُبَاحٍ مِنْ فَتْحِ عَيْنِهِ، وَغَضِّ بَصَرِهِ، وَتَنَفُّسِهِ، وَغَيْرِهَا مِنْ حَرَكَاتِهِ، وَسَكَنَاتِهِ الْمُبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَلَمْ يُمْكِنْ الْعَمَلُ بِعُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ - وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ - بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا فِي الْعُرْفِ، وَنَظِيرُهُ