للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَمِينٌ عِنْدَنَا، وَيَصِيرُ مُولِيًا حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا لِمَا تَبَيَّنَ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْت بِهِ الْكَذِبَ، يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ شَيْئًا وَلَا يُصَدَّقُ فِي نَفْيِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْحَرَامُ يَمِينٌ حَتَّى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا أَمَا كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ نَوَى طَلَاقًا فَطَلَاقٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ طَلَاقًا فَيَمِينٌ كَفَّرَهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَا أُبَالِي حُرْمَتَهَا أَوْ قِطْعَةً مِنْ ثَرِيدٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَفِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ هَلْ هُوَ يَمِينٌ؟ عِنْدَنَا يَمِينٌ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ (وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا خَرَجَ قَوْله تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] مَخْرَجَ الْعِتَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى - وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَمِينَ لَا يُحَرِّمُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَلَى الْحَالِفِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ بِكَوْنِهِ حَلَالًا.

(وَلَنَا) الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ: ﷿ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ [التحريم: ١] إلَى قَوْلِهِ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢] قِيلَ: نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي تَحْرِيمِ جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا قَالَ هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ يَمِينًا بِقَوْلِهِ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢] أَيْ: وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَوْ أَبَاحَ لَكُمْ أَنْ تُحِلُّوا مِنْ أَيْمَانِكُمْ بِالْكَفَّارَةِ، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ كَفَّارَةَ أَيْمَانِكُمْ وَالْخِطَابُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ رَسُولَ اللَّهِ وَأُمَّتَهُ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ النَّبِيَّ جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ جَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا، وَبَعْضُهُمْ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِيهِ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ - وَلَا يَمِينَ - لَا تُتَصَوَّرُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَقَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا نَوَى الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ نَوْعَانِ غَلِيظَةٌ، وَخَفِيفَةٌ فَكَانَتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ تَعْيِينَ بَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيَصِحُّ، وَإِذَا نَوَى وَاحِدَةً كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ الْحُرْمَةِ وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِلْحَالِ، وَإِثْبَاتُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمُخَالِفَ يُوجِبُ فِيهِ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْيَمِينِ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَمِينٌ فِي الشَّرْعِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْكَذِبَ لَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْيَمِينِ فِي الْقَضَاءِ بِعُدُولِهِ عَنْ الظَّاهِرِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ تَغْيِيرُ الشَّرْعِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ مِنْ الْحَالِفِ حَقِيقَةً بَلْ مِنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى -؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ كَالتَّحْلِيلِ إثْبَاتُ الْحِلِّ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ بَلْ الْحُرْمَةُ وَالْحِلُّ، وَسَائِرُ الْحُكُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ثَبَتَتْ بِإِثْبَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا أَصْلًا إنَّمَا مِنْ الْعَبْدِ مُبَاشَرَةُ سَبَبِ الثُّبُوتِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الزَّوْجِ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّهُ - اللَّهُ تَعَالَى - بَلْ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ أَوْ مَنْعَ النَّفْسِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْحَلَالِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَنْعِ وَقَدْ يُمْنَعُ الْمَرْءُ مِنْ تَنَاوُلِ الْحَلَالِ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ [القصص: ١٢] وَالْمُرَادُ مِنْهُ امْتِنَاعُ سَيِّدِنَا مُوسَى عَنْ الِارْتِضَاعِ مِنْ غَيْرِ ثَدْيِ أُمِّهِ لَا التَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ، وَعَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يُحْمَلُ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ حَقِيقَةً فَمَا مَعْنَى إلْحَاقِ الْعِتَابِ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ إنْ كَانَ يُوهِمُ الْعِتَابَ فَلَيْسَ بِعِتَابٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ تَخْفِيفُ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ فِي حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْدُوبًا إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَهُنَّ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالرَّحْمَةِ بِهِنَّ فَبَلَغَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ مَبْلَغًا امْتَنَعَ عَنْ الِامْتِنَاعِ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يَبْتَغِي بِهِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ فَخَرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ فِي حُسْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>