أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا قُرْآنًا، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيُهُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَرَبِيَّةَ سُمِّيَتْ قُرْآنًا لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْقُرْآن، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى إرَادَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ دُونَ الْعِبَارَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ يُوجَدُ فِي الْفَارِسِيَّةِ فَجَازَ تَسْمِيَتُهَا قُرْآنًا، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا﴾ [فصلت: ٤٤] أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعَجَمِ كَانَ قُرْآنًا وَالثَّانِي: إنْ كَانَ لَا يُسَمَّى غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَكِنَّ قِرَاءَةَ الْعَرَبِيَّةَ مَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تُسَمَّى قُرْآنًا بَلْ لِكَوْنِهَا دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِاَللَّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ عَرَبِيَّةً لَا يَتَأَدَّى بِهَا كَلَامُ اللَّهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، فَضْلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ قُرْآنًا وَاجِبًا، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ، وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا تُفْتَرَضُ الْقِرَاءَةُ بِالْفَارِسِيَّةِ عَلَى غَيْرِ الْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَعُذْرُهُمَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّهُ قُرْآنٌ عِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، فَإِذَا زَالَ اللَّفْظُ لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى قُرْآنًا فَلَا مَعْنَى لِلْإِيجَابِ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَرَبِيَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا لَمْ يَكُنْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَصَارَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ وَهُوَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَالْقَوْلُ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَا هُوَ مُفْسِدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْإِعْجَازَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَا يَحْصُلُ بِالْفَارِسِيَّةِ - فَنَعَمْ لَكِنَّ قِرَاءَةَ مَا هُوَ مُعْجِزُ النَّظْمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَرَدَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ لَا بِقِرَاءَةِ مَا هُوَ مُعْجِزٌ، وَلِهَذَا جَوَّزَ قِرَاءَةَ آيَةٍ قَصِيرَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ مُعْجِزَةً مَا لَمْ تَبْلُغْ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَفَصْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ مَمْنُوعٌ.
وَلَوْ قَرَأَ شَيْئًا مِنْ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ الزَّبُورِ فِي الصَّلَاةِ إنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّفٍ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَخْبَرَ عَنْ تَحْرِيفِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: ٤٦] ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَقْرُوءَ مُحَرَّفٌ فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَلَا يُحْكَمُ بِالْجَوَازِ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا تَشَهَّدَ أَوْ خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَلَوْ أَمَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ سَمَّى عِنْدَ الذَّبْحِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ لَبَّى عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِالْفَارِسِيَّةِ، أَوْ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الْإِعْلَامُ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ بِهِ الْإِعْلَامُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّهَا سُنَّةٌ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ؟ .
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: «إذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخِرِ السَّجْدَةِ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» ، عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَأَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْفَرَائِضِ إذْ لَمْ يَتِمَّ أَصْلُ الْعِبَادَةِ بَعْدُ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تَمَامَ قَبْلَهَا إذْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَامَ إلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَرَجَعَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا لَمَا رَجَعَ كَمَا فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ حَدَّ الرُّكْنِ مَوْجُودٌ فِيهَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهَا اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا الصَّلَاةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ، لَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ الْقَدْرُ الْمَفْرُوضُ مِنْ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ هُوَ قَدْرُ التَّشَهُّدِ، حَتَّى لَوْ انْصَرَفَ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ هَذَا الْقَدْرَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ﵄ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» ، عَلَّقَ تَمَامَ الصَّلَاةِ بِالْقَعْدَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَدَلَّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَمِنْهَا) الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الرُّكْنِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الرُّكْنِ فَهَذِهِ السِّتَّةُ أَرْكَانُ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُوَلَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْبَاقِيَتَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْقَعْدَةُ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ أَيْضًا، وَإِلَيْهِ مَالَ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا فَرْضٌ تَنْعَدِمُ الصَّلَاةُ بِانْعِدَامِهَا كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ؛ لِأَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمُتَرَكِّبِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ بِدُونِ الْقُعُودِ، وَلِهَذَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا وَوَقْتَ الزَّوَالِ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْقَعْدَةُ، وَلَوْ أَتَى بِمَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يَحْنَثُ، وَلِأَنَّ الْقَعْدَةَ بِنَفْسِهَا غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الِاسْتِرَاحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَتَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي كَوْنِهَا رُكْنًا أَصْلِيًّا، فَلَمْ تَكُنْ هِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْأَصْلِيَّةِ لِلصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فُرُوضِهَا حَتَّى لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ