قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّسْبِيحِ وَالسُّكُوتِ، وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَا السَّهْوِ، وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ﵄ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: إنَّ الْمُصَلِّيَ بِالْخِيَارِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، إنْ شَاءَ قَرَأَ وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ وَهَذَا بَابٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُمَا كَالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
(وَأَمَّا) بَيَانُ قَدْرِ الْقِرَاءَةِ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمَفْرُوضِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ وَالثَّانِي - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ وَالثَّالِثُ - فِي بَيَانِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ (أَمَّا) الْكَلَامُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَفِيمَا يُكْرَهُ فَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَهَهُنَا نَذْكُرُ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلُ الْجَوَازِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ، طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٦٤] .
وَقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ نَظَرَ﴾ [المدثر: ٢١] ، وَقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾ [المدثر: ٢٢] رِوَايَةٍ الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بَلْ هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ، سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ قُدِّرَ الْفَرْضُ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولَانِ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا - أَنَّهُ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ وَالثَّانِي - أَنَّهُ أَمْرٌ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ وَعَسَى لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا هَذَا الْقَدْرُ.
وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَيْ الْجَمْعِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ السُّوَرَ فَيَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، وَيُقَالُ قَرَأْتُ الشَّيْءَ قُرْآنًا أَيْ جَمَعْتُهُ، فَكُلُّ شَيْءٍ جَمَعْتُهُ فَقَدْ قَرَأْتُهُ.
وَقَدْ حَصَلَ مَعْنَى الْجَمْعِ بِهَذَا الْقَدْرِ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ، وَكَذَا الْعُرْفُ ثَابِتٌ، فَإِنَّ الْآيَةَ التَّامَّةَ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْقُرْآنِ فِي الْعُرْفِ.
فَأَمَّا مَا دُونَ الْآيَةِ فَقَدْ يُقْرَأُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْقُرْآنِ فَيُقَالُ: بِسْمِ اللَّهِ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا بِالْآيَةِ التَّامَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِتَسْمِيَتِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ وَقَدْ قَرَّرَ الْقُدُورِيُّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
وَقَالَ: الْمَفْرُوضُ مُطْلَقُ الْقِرَاءَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ مَا دُونَ الْآيَةِ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْرَأُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَإِنَّ الْآيَةَ التَّامَّةَ قَدْ تُقْرَأُ لَا عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ قَدْ تُذْكَرُ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ لَا لِقَصْدِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ آيَةٌ تَامَّةٌ؟ وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا قَرَأَ عَلَى قَصْدِ الْقُرْآنِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْجَوَازُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ الْجَوَازُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ يَثْبُتُ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ أَحْسَنَ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ، وَإِذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ يُسَبِّحُ وَيُهَلِّلُ عِنْدَهُ وَلَا يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] ، أَمَرَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ، فَهُمْ قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: ٢] ، فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا فَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ، وَالْإِعْجَازُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ فَلَا يَكُونُ الْفَارِسِيُّ قُرْآنًا لِانْعِدَامِ الْإِعْجَازِ، وَلِهَذَا لَمْ تُحَرَّمْ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ مَعْنَاهُ لِيَكُونَ التَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ فَلَا يُؤْمَرُ بِقِرَاءَتِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّ الْوَاجِبَ فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لِمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٦] .
وَقَالَ: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ [الأعلى: ١٨] ﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: ١٩] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ فِي كُتُبِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِهَذَا الْمَعْنَى.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُمْ: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُنَزَّلُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ - (فَالْجَوَابُ) عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَوْنَ الْعَرَبِيَّةِ قُرْآنًا لَا يَنْفِي