عَجَزَ كَانَ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ، وَبِهَذَا عَلَّلَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ: لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَنَّهُ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْمُكَاتَبِ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا وَإِنْ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصَّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنْ عَفَوَا فَعَفْوُهُمَا بَاطِلٌ، وَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُكَاتَبِ أَمَّا بُطْلَانُ الْعَفْوِ.
فَأَمَّا عَفْوُ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ، فَلَا يَصِحُّ عَفْوُهُ وَإِمَّا عَفْوُ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَى الْقَاتِلِ فَكَانَ إبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا مِنْهُ، وَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ.
فَإِنْ قَتَلَ مَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ بِلَا شَكَّ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أَوْ لَمْ يَتْرُكْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَقْضِي بِهَا كِتَابَتَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قَدْ سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الدِّيَةُ فَسَقَطَ عَنْهُ قَدْرُ مَالِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ دِيَتَيْنِ الْتَقَيَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الذِّمَّةِ، وَلَيْسَ فِي إسْقَاطِهِ إبْطَالُ الْعَقْدِ، وَلَا اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَمَا بَقِيَ يَكُونُ لِوَارِثِهِ لَا لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَلَا يَرِثُهُ وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذَلِكَ قِصَاصًا إذَا حَلَّ أَجَلُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ مُؤَجَّلَةً.
وَلَوْ قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبَةِ رَجُلًا خَطَأً يُقَالُ لِلْمُكَاتِبِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ فَكَانَ التَّدْبِيرُ إلَيْهِ.
كَعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ يُخَيِّرُ الْمَأْذُونُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ، فَالْمُكَاتِبُ أَوْلَى بِخِلَافِ نَفْسِ الْمُكَاتَبِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُكَاتَبِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ بِخِلَافِ كَسْبِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ النَّقْلَ فَتَعَذَّرَ الدَّفْعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ نَفْسَ الْعَبْدِ الْجَانِي مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ، وَثَمَّةَ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ كَذَا هَهُنَا.
وَيُؤْخَذُ الْمُكَاتَبُ بِأَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَنَحْوِهَا؛ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ لَا الْقِنُّ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى.
وَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهُ، وَلَا مِنْ امْرَأَةِ مَوْلَاهُ، وَلَا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ مَوْلَاهُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ سَرَقَ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ فَكَذَا مُكَاتَبُهُ وَكَذَا لَوْ سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ، فَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ الْمُكَاتَبِ.
وَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ.
وَيَصِحُّ مِنْ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ نَسَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ كَذَّبَتْهُ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ لِأَكْثَرَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدَ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ رَقَبَةً فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا لَهُ أَيْضًا، وَنَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّصْدِيقِ، ثُمَّ الْأَمَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَهَا الْعُقْرُ إنْ كَانَ الْعُلُوقُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا، وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهَا، وَالْعُقْرُ بَدَلُ مَنَافِعِ بُضْعِهَا فَيَكُونُ لَهَا، وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ سَقَطَ الْعُقْرُ، هَذَا إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ.
فَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَذَلِكَ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْكِتَابَةَ، وَإِنْ شَاءَ مَضَى عَلَيْهَا لِتَوَجُّهِ الْعِتْقِ إلَيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ عَلِقَتْ بِهِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا قُلْنَا وَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ.
وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ قَاصِرٌ حَتَّى لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ يَقُولُ بِأَنَّهُ دَيْنٌ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَلَنَا أَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ دَيْنٌ يُحْبَسُ بِهِ وَدَيْنٌ لَا يُحْبَسُ بِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الْكَفَالَةَ بِهِ لَمْ يَكُنْ الثَّابِتُ بِهَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ، فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ﵁ وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: يَعْتِقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁: إذَا أَعْطَى مِقْدَارَ قِيمَتِهِ عَتَقَ ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ﵄: إذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ غَرِيمٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى