للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُكَاتَبِ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَمُوتُ حُرًّا فَيُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ، وَبِهِ أَخَذَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ.

وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَوْ عَتَقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْتِقَ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعِتْقِ قَدْ فَاتَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الرِّقُّ، وَقَدْ فَاتَ بِالْمَوْتِ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ، فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْعِتْقِ، وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَعْتِقُ مُسْتَنِدًا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ، ثُمَّ يَسْتَنِدُ.

أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَكُمْ، فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ لَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا، فَيُرَاعَى قِيَامُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، وَالْمَحَلُّ هَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ لِلْحَالِ، فَلَا يَسْتَنِدُ، وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إنَّ شُرَيْحًا قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ.

فَقَالَ سَعِيدٌ: أَخْطَأَ شُرَيْحٌ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا، فَإِنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بُدِئَ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ، فَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي التَّرْتِيبِ وَالْمَيْلُ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ تُشِيرُ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَلَّقٌ بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ، وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِأَخْذِ الْعِوَضِ أَوْ الْإِبْرَاءِ لَا بِصُورَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْمُكَاتَبِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً أَصْلًا بِأَخْذِ الْمَوْلَى وَبِالْإِبْرَاءِ، وَقَدْ سَلِمَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِالْإِبْرَاءِ أَمَّا طَرِيقُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبِ، وَحُكْمُهُ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَسَلَامَتُهُ، وَفِي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ سَلَامَةُ رَقَبَتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةُ أَوْلَادِهِ وَأَكْسَابِهِ حَالَ سَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى، وَفِي الْحَالِ زَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عَنْهُ وَصَيْرُورَتُهُ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِي الْمُبْدَلِ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لِلْحَالِ، حَتَّى لَوْ تَبَرَّعَ عَنْهُ إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ، وَلَوْ أَبْرَأهُ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَيَعْتِقُ.

وَلَوْ أَحَالَ الْمُكَاتَب عَلَى غَرِيمٍ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِنْ أَكْسَابِهِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ وَعَتَقَ.

وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي الْبَدَلِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الْمُبْدَلُ مِنْ مِلْكِهِ، وَهُوَ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ، وَتَسْلَمُ لَهُ رَقَبَتُهُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، إذْ الْمُعَاوَضَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالرَّقَبَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، كَمَا فِي الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ.

إلَّا أَنَّ الزَّوَالَ لَوْ ثَبَتَ هَهُنَا لِلْحَالِ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَيَتَكَامَلُ فِي الْأَدَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ عَنْ الْكِتَابَةِ، فَشُرِعَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى خِلَافِ مُوجَبِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي ثُبُوتِ السَّلَامَةِ وَزَوَالِ الْمُبْدَلِ عَنْ الْمَوْلَى إلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ، نَظَرًا لِلْمَوَالِي وَتَرْغِيبًا لَهُمْ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَنَظَرًا لِلْعَبِيدِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى الْعِتْقِ، فَإِذَا جَاءَ آخِرُ حَيَاتِهِ وَعَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ انْتَقَلَ الدَّيْنُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى أَكْسَابِهِ كَمَا فِي الْحُرِّ، إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يَسْلَمُ لَهُ إمَّا بِالْهَلَاكِ، أَوْ بِأَخْذِ الْوَرَثَةِ، فَإِذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ، وَهُوَ سَلَامَةُ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى فَيَسْلَمُ الْمُبْدَلُ لِلْمُكَاتَبِ، وَهُوَ رَقَبَتُهُ لَهُ.

وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ آخِرَ حَيَاتِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ لَعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، وَانْتَقَلَ إلَى الْمَالِ خَلَفًا عَنْ الْمُطَالَبَةِ عَنْهُ، فَيُطَالِبُ بِهِ وَصِيُّهُ، أَوْ وَارِثُهُ، أَوْ وَصِيُّ الْقَاضِي، فَإِذَا أَدَّى النَّائِبُ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ النَّائِبِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَيَبْرَأُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْمُطَالَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَعْتِقُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ هُوَ مِنْ صُورَةِ الْأَدَاءِ، بَلْ سَلَامَةُ الْبَدَلِ صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ مَعْنًى بِالْإِبْرَاءِ وَقَدْ حَصَلَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَيَبْقَى حَيًّا تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ، كَمَا يَبْقَى الْمَوْلَى حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْكِتَابَةِ، وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فِيهِ، وَهُوَ مُثْبَتٌ حَقِيقَةً وَيُقَدَّرُ حَيًّا عَلَى اخْتِلَافِ طَرِيقِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ.

وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَك وَفَاءً وَأَوْلَادًا أَحْرَارًا بِأَنْ وُلِدُوا مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، يُؤَدَّى بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَمَا فَضَلَ يَكُونُ مِيرَاثًا بَيْنَ أَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>