وَفِيمَا وَرَاءَهُ يُرَدُّ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاسْتِقْبَالِ أَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى الْقِبْلَةِ إنْ كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ فَإِلَى عَيْنِهَا، أَيْ: أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ مِنْ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْهَا غَيْرَ مُتَوَجِّهٍ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] ، وَفِي وُسْعِهِ تَوْلِيَةُ الْوَجْهِ إلَى عَيْنِهَا فَيَجِبُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ الْكَعْبَةِ غَائِبًا عَنْهَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى جِهَتِهَا، وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ بِالْإِمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَا إلَى عَيْنِهَا، وَتُعْتَبَرُ الْجِهَةُ دُونَ الْعَيْنِ.
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَالرَّازِي، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَفْرُوضُ إصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ حَتَّى قَالُوا: " إنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ شَرْطٌ " وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: ١٤٤] ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْغَيْبَةِ؛ وَلِأَنَّ لُزُومَ الِاسْتِقْبَالِ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْعَيْنِ لَا فِي الْجِهَةِ؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لَوْ كَانَتْ الْجِهَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ إذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ الْجِهَةَ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِظُهُورِ خَطَئِهِ فِي اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، فَدَلَّ أَنَّ قِبْلَتَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَيْنُ الْكَعْبَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي.
(وَجْهُ) قَوْلِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ هُوَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، وَإِصَابَةُ الْعَيْنِ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهَا فَلَا تَكُونُ مَفْرُوضَةً؛ وَلِأَنَّ قِبْلَتَهُ لَوْ كَانَتْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ لَتَرَدَّدَتْ صَلَاتُهُ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَصَابَ عَيْنَ الْكَعْبَةِ بِتَحَرِّيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ عَيْنَ الْكَعْبَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا وَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ.
وَقَدْ عُرِفَ بُطْلَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، أَمَّا إذَا جُعِلَتْ قِبْلَتُهُ الْجِهَةَ وَهِيَ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْخَطَأِ، فَنَزَلَتْ الْجِهَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنْزِلَةَ عَيْنِ الْكَعْبَةِ فِي حَالِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَ أَيَّ جِهَةٍ شَاءَ قِبْلَةً لِعِبَادِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢] ؛ وَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوا عَيْنَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالتَّحَرِّي، وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَجَرُّدِ شَهَادَةِ الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَالْجِهَةُ صَارَتْ قِبْلَةً بِاجْتِهَادِهِمْ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مِنْ النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ فَوْقَ الِاجْتِهَادِ بِالتَّحَرِّي، وَلِهَذَا إنَّ مَنْ دَخَلَ بَلْدَةً وَعَايَنَ الْمَحَارِيبَ الْمَنْصُوبَةَ فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، وَكَذَا إذَا دَخَلَ مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ لَهُ وَبِحَضْرَتِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ - لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عِلْمًا بِالْجِهَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْأَمَارَاتِ فَكَانَ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالتَّحَرِّي، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ، وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ، وَلَهُ عِلْمٌ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى الْقِبْلَةِ - لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ التَّحَرِّي.
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نِيَّةَ الْكَعْبَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، بَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَنْوِيَ الْكَعْبَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تُحَاذِيَ هَذِهِ الْجِهَةُ الْكَعْبَةَ فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنَاوَلَتْ حَالَةَ الْقُدْرَةِ، وَالْقُدْرَةَ حَالَ مُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ لَا حَالَ الْبُعْدِ عَنْهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الِاسْتِقْبَالَ لِحُرْمَةِ الْبُقْعَةِ، أَنَّ ذَلِكَ حَالَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ إلَيْهَا دُونَ حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ عَاجِزًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ عَاجِزًا بِسَبَبِ عُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ عَجْزُهُ بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا لِعُذْرٍ مَعَ الْعِلْمِ بِالْقِبْلَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ وَيَسْقُطَ عَنْهُ الِاسْتِقْبَالُ، نَحْوَ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَدُوِّ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، أَوْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَثِبُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، أَوْ السَّبْعُ، أَوْ كَانَ عَلَى لَوْحٍ مِنْ السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ لَوْ وَجَّهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ يَغْرَقُ غَالِبًا، أَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِنَفْسِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَيْسَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يُحَوِّلَهُ إلَيْهَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ زَائِدٌ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا بِسَبَبِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَفَازَةِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، أَوْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْقِبْلَةِ، فَإِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي لِمَا قُلْنَا، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، فَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ وَتَحَرَّى وَصَلَّى فَإِنْ أَصَابَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ جَازَ لَهُ التَّحَرِّي؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالْإِمْكَانِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا التَّحَرِّي فَتَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّحَرِّي لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] .
وَرُوِيَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَحَرَّوْا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute